سوريا والمعركة مع لصوص التاريخ
مشهد تعذيب عالِم الآثار السوريّ والمدير السابق للآثار والمتاحف في تدمر خالد الأسعد وإعدامه سيبقى عالقاً في ضمائر السوريين، وفي ذاكرة كلّ علماء الآثار.
لم يعد يخفى على أحد قطّ ما فعلته الجماعات المسلحة الإرهابيّة، وفي مقدّمتها تنظيم "داعش" التكفيريّ، من تدمير ممنهج ومدروس للحضارة السورية وآثارها في كل منطقة وصلوا إليها. لقد كان واضحاً للسوريين والعالم أنّ قتل الإنسان وتشريده لم يكن الهدف الوحيد لهؤلاء، على اختلاف مسمّياتهم، بل كان تدمير إرث سوريا الحضاري والتاريخيّ ونهبه والإتجار به أحد أهمّ أهدافهم أيضاً.
سوريا هي قلب العالم، وهي مهد حضارات قديمة وعظيمة ومؤثّرة في العالمين القديم والحديث، امتدّت من الكنعانيين والفينيقيين، وصولاً إلى الأمويين، مروراً باليونانيين والرومان والبيزنطيين. وليس ثمّة منطقة في سوريا لا تحوي من خزائن التاريخ وكنوزه ما يشير إلى كل هؤلاء، ابتداءً من تدمر والرقة وحلب واللاذقية وطرطوس شمالاً، إلى دمشق ودرعا وباقي الجنوب السوريّ.
تدمير ممنهج للحضارة في سوريا
لقد بدا واضحاً في ما بعد أنّ تنظيم "داعش" الإرهابي أتى بخطّة منظّمة لتدمير ثروات سوريا بعد سرقة كلّ ما يمكن سرقته منها، وذلك تحت عناوين "تدمير الأصنام".
وقد بدأ التنظيم خطته في العام 2015 بهدم دير "مار إليان" للسريان الكاثوليك في مدينة القريتين التابعة لمحافظة حمص، والذي يعود تاريخ تشييده إلى القرن الخامس الميلادي. وبعد تلك الجريمة بيومين فقط، أقدم عناصر التنظيم الإرهابي على تفجير معبد "بعل شمين" الشهير في مدينة تدمر الأثرية، وتدمير تمثال أسد أثينا الشهير أيضاً، كما هدموا عدداً من المدافن البرجية، وحوّلوا قوس النصر المعروف إلى رماد، إضافةً إلى استخدامهم المسرح الروماني لتنفيذ عمليات إعدام جماعية، بثوا مشاهد لبعضها على شبكة الإنترنت.
ولعلّ مشهد تعذيب عالِم الآثار السوريّ والمدير السابق للآثار والمتاحف في تدمر خالد الأسعد وإعدامه سيبقى عالقاً في ضمائر السوريين، وفي ذاكرة كلّ علماء الآثار ومحبيها حول العالم. وقد رفض الأسعد إخبار عناصر التنظيم الإرهابي عن مكان القطع الأثريّة التي تمّ إنقاذها قبل دخولهم إلى المدينة، مفضّلاً الموت على ذلك.
لم يكن تنظيم "داعش" وحده الجهة التي أمعنت قتلاً وتدميراً ونهباً في سوريا وإنسانها ومكتسباتها وحاضرها وإرثها التاريخيّ، فقد أقدمت الفصائل المسلّحة المدعومة من تركيا على اقتراف جرائم لا تعد ولا تحصى، إذ دمّرت مساجد وأضرحة وكنائس وأديرة ومواقع أثرية قديمة ومكتبات، كما أقدمت على هدم أحد أقدم الأسواق التجاريّة في منطقة الشرق الأوسط، والذي يقع في مدينة حلب القديمة، وقصفت "قلعة الحصن" الأثريّة في حمص.
كذلك، دمّرت "جبهة النصرة" الإرهابيّة تماثيل أبي العلاء المعري في منطقة إدلب، وخصوصاً تمثاله الشهير في مسقط رأسه معرّة النعمان، والمعري هو واحد من أبرز وجوه الأدب العربي في القرن العاشر.
تاريخ سوريا للبيع على صفحات الإنترنت
إضافةً إلى التدمير والنهب العلنيّ، قام لصوص التاريخ هؤلاء بعرض القطع الأثريّة السوريّة المنهوبة علناً في صفحات موقعي "تويتر" و"فيسبوك"، تحت عنوان "آثار للبيع في سوريا"، مع التأكيد على مصدرها السوريّ وذكر مكان التسليم، وهو تركيا بالطبع، في دليل دامغ على تورّط النظام التركيّ في مشروع تدمير سوريا ونهبها.
وفي السياق ذاته، عمد تنظيم "داعش" الإرهابي أثناء احتلاله لمساحات من سوريا، إلى إصدار ورقة ومنحها للصوص الآثار التابعين للتنظيم أو العاملين معه، تتضمن تقديم تسهيلات لحاملها، وتوصية بعدم التعرّض له، باعتباره "خبير آثار"، وحملت الورقة أختام التنظيم المتطرف، تعلوها رايته.
وقد قامت صحيفة "دايلي مايل" البريطانية بعرض صور مأخوذة من موقع "ebay" المعروف، والذي يعرض قطعاً أثرية للبيع بمبالغ زهيدة، مع إشارة إلى مصدر القطع الذي يعود إلى سوريا والعراق.
آثار سوريا في المعارض العالمية
خلال 10 سنوات من الحرب في سوريا، تمّت سرقة آلاف القطع الأثرية النادرة من كل المحافظات التي دخلها الإرهابيون الذين قاموا ببيعها بمئات آلاف الدولارات، إضافة إلى سرقات سبقت ذلك بأعوام، قام بها اللصوص وتجّار الآثار المحلّيون.
عند زيارة متحف "اللوفر" في باريس مثلاً، يمكنك أن ترى قاعة كبيرة تحتوي آثاراً من مدينة تدمر السوريّة، معروضة في خزائن زجاجية، منها تمثال تشريفي بالطول الكامل لشاب تدمري يعود إلى القرن الثاني أو الثالث للميلاد، وبقرة تُرضِع عجلها (عاج وذهب).
كذلك، هناك قطع أثرية سورية مختلفة نراها في معاهد عالمية، مثل معهد "سميثسونيان" للفنون، ومخطوط قرآني سوري موجود في معرض "فرير آند ساكلر" للفنون يعود إلى القرن التاسع للميلاد.
أمّا في الولايات المتحدة، فيمكن رؤية فانوس أثري يعود إلى مدينة الرقة السوريّة في متحف "ميتروبوليتان" للفنون في نيويورك. وهناك آثار سورية أخرى معروضة في متحف "بيرغمون" في ألمانيا، وفي جامعة "ييل" في أميركا، وفي متحف الكابيتول والمتحف الأشمولي في إيطاليا، وأيضاً في معارض لوس أنجلوس وعشرات المتاحف الأخرى.
وخلال الحرب، وصل مخطوط توراتي من العراق بقالب سوري الصنع إلى وزارة خارجية الاحتلال الإسرائيليّ، في عملية نهب جديدة ومكشوفة تقوم بها سلطات الاحتلال في بلادنا.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ عمليات تنقيب واسعة قامت بها "إسرائيل" في الجولان السوريّ المحتلّ. ومن نتائجها وجود "مسلة الرجل الثور" المنهوب من الجولان في متحف للاحتلال في "تل أبيب".
وإضافةً إلى التورّط الإسرائيلي في سرقة سوريا وتدميرها، كان لتركيا دور مماثل، لا يقلّ كارثيّة عن دور "إسرائيل"، إذ وُجد تمثال الملك سوبيلوليوما معروضاً في متحف "هاتاي" للآثار في تركيا، وهو تمثال يعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد. وقد تمّت سرقته من لواء الإسكندرون السوريّ السليب.
كما شوهد رأس تمثال "ياريم ليم"، أحد ملوك ألالاخ (تل أكانا الحالي)، معروضاً في متحف إقليم هاناي (إنطاكيا)، يعود تاريخه إلى القرن التاسع قبل الميلاد. وتلك كلها دلائل تشير إلى تورّط جهات عالمية وإقليميّة، إلى جانب الإرهابيين واللصوص، في سرقة هذه الآثار منذ زمن وحتّى يومنا هذا.
عمليات تنقيب أجنبية مشبوهة في سوريا
من خلال البحث المستمرّ، تم الكشف عن عمليات تنقيب قام بها أجانب في الأراضي السورية، إذ عمدت تركيا مؤخراً إلى جرف التلال الأثرية الواقعة في سهل عفرين بواسطة الجرافات، للتنقيب عن الكنوز الموجودة فيها، والتي يعود تاريخها إلى آلاف السنين. وقد عثروا بالفعل على تماثيل ومنحوتات نادرة تعود إلى الألف الأول قبل الميلاد وإلى العصر الروماني.
كما أجرى علماء آثار فرنسيون، وبشكل سرّي، عمليات تنقيب في محافظة دير الزور، في الجزء الواقع تحت حماية عناصر "قسد"، مثل موقع "دور كاتليمو" الأثري ومحيطه، في بلدة غريبة الشرقية في ريف دير الزور الشمالي. ويقوم هؤلاء بنقل الآثار إلى حقل العمر النفطي الذي تتواجد فيه قوات أجنبية، من بينها قوات فرنسية.
إحباط العديد من محاولات التهريب
وخلال سنوات خلت، أحبطت السلطات المحلية والعالمية العديد من محاولات تهريب الآثار، من بينها اعتقال ضابط في الجيش التركي، عند محاولته تهريب قطع أثرية من سوريا باتجاه الأراضي التركية.
وقد أكّد الضابط في اعترافاته تورط عدد من الضباط الأتراك المنتشرين في مدينة إدلب في عمليات تهريب الآثار من سوريا إلى جهة مجهولة، وذلك في جهد مشترك بين الأتراك وحركة "تحرير الشام" ("النصرة" سابقاً).
وأوقفت السلطات التركية مؤخراً 93 مشتبهاً به في 30 ولاية على خلفية تهريب آثار، في أكبر عملية من نوعها في تاريخ الجمهورية، وتمكّنت من ضبط 13 ألفاً و398 قطعة أثرية، عُثر عليها في منازل المشتبه بهم وأماكن عملهم وسياراتهم.
كما جرى ضبط قطع أثرية سورية مسروقة ومهرّبة عن طريق بيروت في مطار شارل ديغول الفرنسيّ، كانت في طريقها إلى تايلاند، بينما تم اتّهام مواطن أميركي بتهريب فسيفساء رومانية قديمة تعتقد السلطات أنها نُهبت من سوريا. وصادرت السلطات السويسرية أيضاً مجموعة قطع أثرية مصدرها سوريا، وأخرى من اليمن وليبيا.
وكثيراً ما تعلن المديرية العامة للآثار والمتاحف في سوريا إحباط عمليات تهريب لعدد من القطع الأثرية في الجنوب السوري، وخصوصاً من محافظة درعا، تعود إلى حقبات تاريخية مختلفة، كالعصر البرونزي الحديث، والفترة الرومانية، والفترة الهلنستية.
وتعمل الدولة السورية على استعادة ما تمّت سرقته من جهة، وترميم ما جرى تدميره من جهة أخرى، فقد كشفت مؤخّراً عن لوحة فسيفساء أثرية سورية، تمّت استعادتها من متحف "مونتريال" للفنون الجميلة في كندا، وتم وضعها في حديقة المتحف الوطني في دمشق.
كما تسلَّم السفير حسام الدين آلا، مندوب سوريا الدائم لدى مكتب الأمم المتحدة والمنظمات الدولية في جنيف، من متحف الفن والتاريخ السويسري 3 قطع أثرية مسروقة من أحد المواقع في مدينة تدمر، بينما تقوم دوائر الآثار السوريّة الرسميّة بجهود كبيرة لترميم آثار تدمر المهدّمة، وسوق حلب القديم، والجامع الأموي المدمّر فيها، كذلك ترميم منطقة القلعة الأثرية الكبيرة في حلب وما حولها، وفي كل منطقة شهدت حجارتها إرهاب الجماعات المسلحة وإجرامهم بحقّ سوريا وأهلها وتاريخها.