زينب الضحية.. والمعايير الأميركية

قد لا يحتاج المتابع والمراقب إلى جهد كبير أو وقت طويل، لاكتشاف المعايير المزدوجة في التعاطي مع القضايا الإنسانية من زوايا سياسية.

  • زينب الضحية.. والمعايير الأميركية 
    زينب الضحية.. والمعايير الأميركية 

مرت حادثة مصرع الفتاة العراقية، صاحبة الخمسة عشر ربيعاً، زينب عصام، بصورة عابرة، وكأنها حادثة عادية تدرج تحت عنوان القضاء والقدر، على العكس تماماً من حوادث أخرى، قد لا ترقى إليها من حيث طبيعة ظروفها وملابساتها وخلفياتها.

 من هي زينب عصام، وما قصة مصرعها؟ 

زينب عصام الخزعلي، فتاة ريفية من عائلة بسيطة تقطن في قرية البوعلوان في قضاء أبو غريب التابع لمحافظة بغداد، تمتهن الزراعة وتربية المواشي، ويقع منزل عائلتها والمزرعة التي يتوسطها بالقرب من قاعدة فيكتوريا المتاخمة لمطار بغداد الدولي، والتي يتمركز فيها مئات الجنود الأميركيين.

خرجت من منزلها في ساعات الصباح الأولى يوم 20 أيلول/سبتمبر الماضي، متوجّهة إلى المزرعة لمساعدة والدها في أعمال الزراعة، بيد أن رصاصة طائشة اخترقت جسدها قبل أن تصل إلى مبتغاها لتسقطها صريعة مضرجة بدمائها.

وبالرغم من أن قيادة العمليات المشتركة التابعة لوزارة الدفاع العراقية، أعلنت فتح تحقيق في ملابسات الحادثة، أكدت مجمل المؤشرات والدلائل والمعطيات، أن مصدر الرصاصة الطائشة التي قتلت زينب، هو ميدان الرمي الذي تستخدمه القوات الأميركية في تدريباتها في قاعدة فيكتوريا. 

وعن حادثة مصرع ابنته، يقول والد زينب في تصريحات صحافية، "إن زينب أصيبت بأول إطلاقة من المطار، حيث كانت القوات الأميركية تجري تدريباً عسكرياً بالذخيرة الحية، ولم تكن ابنتي أول ضحية لرصاص التدريبات، بل هناك سبع حالات لإصابات مسجلة رسمياً، فضلاً عن عشرات الإصابات المتفاوتة التي لم توثق قانونياً".

ويذكر والد زينب، أن أباه "لقي حتفه هو الآخر قبل سنوات بعد تعرضه لإصابة برصاصة طائشة مصدرها القاعدة الأميركية في مطار بغداد، وأن الأهالي وجّهوا مناشدات سابقة للقوات الأمنية بإيجاد حل لهذه الممارسات، لكنها لم تجد آذاناً صاغية"!. 

واللافت هنا، أنه لم يصدر أي تصريح أو توضيح من أي جهة رسمية أميركية، سواء من السفارة في بغداد، أو غيرها، وكذلك لم يصدر بيان رسمي من الحكومة العراقية بإدانة هذا الفعل الإجرامي غير المسؤول واستنكاره، وأكثر من ذلك، فإن مستوى ردود الأفعال حيالها لم يكن بالمستوى المطلوب، لا على الصعيد السياسي ولا الإعلامي ولا الشعبي-الجماهيري.

وربما بدا أمر اللا مبالاة أكثر وضوحاً في فضاءات الإعلام العربي والأجنبي، هذا في الوقت الذي انشغلت المنظومات الإعلامية والسياسية العربية والغربية بحادثة وفاة الفتاة الإيرانية مهسا أميني، التي لم تتبيّن الأسباب الحقيقية لوفاتها حتى الآن، بالرغم من تسببها باندلاع موجة احتجاجات عمّت الشارع الإيراني، خلال الأيام القليلة الماضية. 

ومن الطبيعي جداً أن يثار العديد من التساؤلات والاستفهامات عن سر إهمال حادثة مأساوية ومغزاه، كحادثة مصرع زينب العراقية، والتركيز الكبير على وفاة-أو مقتل-مهسا الإيرانية، في منهج فاضح للغاية بإخضاع القضايا الإنسانية للحسابات والأجندات السياسية.

وقد لا يحتاج المتابع والمراقب إلى جهد كبير أو وقت طويل، لاكتشاف المعايير المزدوجة في التعاطي مع القضايا الإنسانية من زوايا سياسية، وتوظيفها توظيفاً سيئاً، إذ إن التركيز على مقتل زينب والاهتمام بقضيتها، سيفضي في النهاية إلى تسليط الضوء على جانب من السلوك الأميركي المشين المتمثل في الاستخفاف بأرواح الناس ومصائرهم، وهذا ما يتقاطع مع مهمات الماكينات الإعلامية والسياسية الغربية، ومن يدور في فلكها ويتحرك وفقاً لإيقاعاتها، وأدوارها ووظائفها. 

في مقابل ذلك، فإن تحويل وفاة مهسا أميني إلى قضية عالمية، بصرف النظر عما إذا كانت قد لقيت مصرعها من جراء أزمة قلبية مفاجئة، كما أوضحت أجهزة الشرطة الإيرانية، أو بفعل إساءة التعامل معها، هو جزء من الأجندات السياسية الغربية، لأن المستهدف في واقع الأمر هو النظام السياسي الإيراني، الذي يقف في موقع الخصومة والعداء الكامل للولايات المتحدة الأميركية و"إسرائيل" وأطراف دولية وإقليمية أخرى متحالفة ومصطفة معهما.

وفي أفضل تقدير-وعلى سبيل المثال لا الحصر-فإن حادثة مقتل زينب، لم تحظَ، ولو بجزء صغير جداً، مما حظيت به حادثة سقوط الطفل المغربي ريان، ذي الخمسة أعوام في بئر عميقة، مطلع شهر شباط/فبراير الماضي، إذ بقي فيها مدة خمسة أيام، قبل أن يتم إخراجه منها ليفارق الحياة بعد وقت قصير. ولا شك أن التعاطف الإنساني الكبير على الصعيد العالمي مع فاجعة ريان، شيء طبيعي ومحمود، ولكن من حق أي كان أن يتساءل، لمَ لم يهتم الإعلام الذي انشغل بريان، قليلاً بزينب؟ 

إن مقتل زينب برصاص القوات الأميركية-سواء كان عمداً أو من غير عمد-لا يخرج عن سياق سلسلة طويلة من الجرائم الممتدة على مدى عقدين من الزمن، والتي لا يمكن أن تمحى صورها ومشاهدها من أذهان العراقيين.

ففي عام 2004، كان سجن "أبو غريب" الشهير مسرحاً واسعاً لعمليات تعذيب بشتى الوسائل والأساليب لمئات المعتقلين العراقيين على أيدي القوات الأميركية، ولفظاعة ذلك، لم يكن ممكناً إخفاؤه لفترة طويلة، الأمر الذي اضطر واشنطن إلى الاعتراف بالكثير مما أميط اللثام عنه على لسان بعض الضحايا والسجانين، لكن من دون أن تتخذ أي إجراءات مناسبة لرد الاعتبار، وإنصاف من وقع عليهم الظلم والحيف. 

ولم يكن ما حصل في سجن "أبو غريب" وانكشف لكل العالم، رادعاً للأميركيين لكي يتصرفوا بحكمة وعقلانية وإنسانية، بعيداً من العنجهية والعجرفة والاستهانة بكل الضوابط والقيم والمعايير الإنسانية السليمة. 

فما زالت صورة المجزرة الدموية التي ارتكبتها شركة "بلاك ووتر" الأمنية الأميركية، وسط العاصمة بغداد، في منتصف شهر أيلول/سبتمبر من عام 2007، ماثلة في أذهان الكثيرين من العراقيين، ناهيك بجرائم أخرى كثيرة قد تكون أفظع من تلك الجريمة، لعلّ من بينها الاستهدافات المتكررة لقوات الحشد الشعبي حينما كانت تقاتل تنظيم "داعش" في مختلف مدن العراق ومناطقه، منذ اجتياحه لمساحات من الجغرافيا العراقية في صيف عام 2014 إلى إعلان النصر الشامل عليه في شهر كانون الأول/ديسمبر 2017، وحتى بعد ذلك التاريخ أيضاً، من قبيل اغتيال نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي، أبو مهدي المهندس، وقائد فيلق القدس الإيراني، وعدد آخر من منتسبي الحشد، قرب مطار بغداد الدولي، مطلع شهر كانون الثاني/يناير من عام 2020. 

والمشكلة أن الجرائم التي ارتكبتها القوات الأميركية والشركات الأمنية المتعاملة معها، كانت خارج سياق مضامين الاتفاقية الأمنية المبرمة بين بغداد وواشنطن في عام 2008 ومحدداتها، وكذلك اتفاقية الإطار الاستراتيجي، ناهيك بكونها تمثل دحضاً وتفنيداً لكل الادعاءات والمزاعم القائلة بعدم وجود قوات قتالية أميركية تتحرك وتتصرف كيفما تشاء على الأراضي العراقية.

ولعلّ جريمة قتل الفتاة البريئة زينب، تعد نزراً يسيراً جداً مما قام به الأميركيون في العراق، أو بعبارة أخرى، مثلت زينب عصام ضحية أخرى من قائمة طويلة جداً لضحايا الاحتلال الأميركي للعراق على امتداد عقدين من الزمن. وهي-أي الجريمة-في كل الأحوال، ومن أي زاوية نظرنا إليها، تؤشر إلى أن الوجود العسكري الأميركي في العراق، أياً كانت أشكاله ومظاهره ومبرراته وذرائعه، يعدّ عامل قلق واضطراب، فضلاً عن كونه يمثل إخلالاً بالسيادة الوطنية.

إن الكثير من الوقائع والشواهد، أثبتت أن الأميركيين لا يهتمون ولو بالحد الأدنى، بأرواح الناس بقدر ما يعنيهم تأمين مصالح بلادهم وحلفائهم وأتباعهم وضمانها. لذا، لا يمكن حل مشكلات العراق السياسية والأمنية والاقتصادية وأزماته ما لم يُعمل على إنهاء الوجود الأميركي العسكري وغير العسكري في البلاد.

وفوق ذلك كله، لا بد من وجود موقف وطني موحّد لمختلف القوى والتيارات السياسية والمجتمعية العراقية حيال ذلك الوجود، لأن التفرق والتشتت وتقاطع المواقف، أتاح وسيتيح لواشنطن التمادي كثيراً في تعاطيها السلبي، بالرغم من أنها واجهت مقاومة شرسة في كل الأوقات. ولعلّ مقتل زينب يشكّل فرصة أخرى لبلورة ذلك الموقف الوطني الموحد، مع أن الأفرقاء السياسيين منشغلون وشاغلو الشارع بصراعاتهم وخصوماتهم بشأن تشكيل الحكومة، وخيارات إنهاء الانسداد السياسي والخروج من عنق الزجاجة، بعد مرور عام كامل على الانتخابات البرلمانية المبكرة.