روسيا والصّين وخطاب قوى المقاومة
أُجبِر الكيان الصهيوني سابقاً على الانسحاب من قطاع غزة في العام 2005، وقبل ذلك من جنوب لبنان في العام 2000. وفي كلتا الحالتين، كان انسحابه من دون قيدٍ أو شرطٍ.
لعلَّ من أبرز تجلِّيات حقبة "القطب الواحد" التي عاشها العالم خلال العقود الثلاثة الماضية، والتي يشارف العالم على الخروج منها إلى "نظام عالمي" جديد ما زالت ملامحه قيد التشكل، حيث تجلَّت ملامح "القطب الواحد" باستفراد الولايات المتحدة الأميركية بالتأثير في قضايا منطقتنا العربية، إذ كانت روسيا مشغولة بعملية استعادة توازنها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وكانت الصين في مرحلة بدايات بناء قوتها الاقتصادية العالمية، أما أوروبا، فكان تأثيرها قد بدأ بالتراجع في ملفات السياسة الدولية لمصلحة الولايات المتحدة الأميركية منذ مشروع "مارشال".
أما اليوم، ونظراً إلى التحولات العميقة التي تجري في "النظام العالمي"، والتي تتمثل بعودة روسيا لتكون لاعباً دولياً رئيساً في الساحة الدولية من جهة، ولا سيما في منطقة المشرق العربي، وأيضاً في صعود الصين المطرد كعملاق اقتصادي دولي من جهة أخرى، نجد أنَّ الباب يُفتح مجدداً لهذه القوى الدولية للانخراط بشكل أكبر في ملفات المنطقة العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، القضية الأم والأكثر تعقيداً من بين قضايا المنطقة، إذ يفرض عليها التواجد الروسي العسكري في منطقتنا التعامل مع مسألة الصراع العربي الصهيوني، فكما صرَّح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخراً: "روسيا عملت وستعمل كوسيط نزيه لتسوية النزاعات في الشرق الأوسط ولتحقيق الاستقرار في المنطقة... من أجل تطبيع الوضع في الشرق الأوسط. من المهم مبدئياً دفع عملية التسوية الفلسطينية الإسرائيلية".
أما الصين التي يظهر أنها تتريَّث حالياً في دخول معترك ملفات المشرق العربي السياسية وتعقيداتها، فعلى الأرجح أن تجد نفسها مضطرة إلى الانخراط في هذه الملفات بقدرٍ أو بآخر، إما عاجلاً وإما آجلاً، ولا سيما أنها تسعى بشكل حثيث للاستثمار الاقتصادي في المنطقة الشرقية لحوض المتوسط، لكونها حلقة وصل رئيسية في مشروعها الاستراتيجي "الحزام والطريق".
تطرح هذه المستجدات سؤالاً على فصائل المقاومة الفلسطينية حول الكيفية الأنسب للتعامل مع دول بحجم روسيا والصين العائدتين لأداء أدوار في قضايا منطقتنا، ولا سيما أنَّ منظمة التحرير الفلسطينية كانت قد ارتضت الدخول في خديعة "عملية السلام" التي أفضت إلى الاعتراف بالكيان الصهيوني المزعوم، وقبلت التنازل عن الحق العربي والإسلامي الأصيل في الأراضي المحتلة العام 1948، وما تبع ذلك من القبول بتقسيم القدس إلى شرقيةٍ وغربيةٍ، وتمييع حق العودة المقدس للاجئين الفلسطينيين، إلى درجةٍ توازي التنازل عنه عملياً، وباتت دول العالم اليوم - اللهم إلا الجمهورية الإسلامية في إيران - تنظر إلى تنازلات المنظمة على أنها السقف المقبول فلسطينياً.
الصين مثلاً، التي كانت ترفض الاعتراف بالكيان الصهيوني، والتي كانت من أواخر دول العالم التي اعترفت بهذا الكيان المصطنع، لم تقْدِم على الاعتراف به إلا بعدما اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية به أولاً، وكان حال الصين في ذلك حال العديد من دول العالم الأخرى التي كانت تناصر الحقوق العربية والفلسطينية.
لكن قوى وفصائل المقاومة الفلسطينية، مع باقي قوى المقاومة الحية في وطننا العربي والإسلامي، على عكس منظمة التحرير الفلسطينية، ما زالت ترفع لواء تحرير كامل التراب الفلسطيني المحتل، بصفته الحل العادل والمنطقي للقضية الفلسطينية، ناهيك بكونه الحل الوحيد الحقيقي المتاح للصراع العربي الصهيوني، وذلك إذا ما وُضع أصل فكرة نشأت ووظيفة الكيان الصهيوني في سياقه الصحيح والأشمل ضمن الصراع مع قوى الاستعمار الغربي.
لذلك، يمكن لفصائل المقاومة الفلسطينية بناء خطابها مع هذه الدول على أساس فكرة وجوب انسحاب الاحتلال من الأراضي التي احتلها في العام 1967 من دون قيدٍ أو شرطٍ، فكل قرارات الأمم المتحدة تؤكد أن هذه الأراضي هي أراضٍ محتلة، وعلى أي احتلال الانسحاب من الأراضي التي احتلها من دون قيدٍ أو شرطٍ، ومن دون منحه أية مكافآت مقابل انسحابه هذا، وهي مسألة لا يستطيع أحدٌ المحاججة فيها بالقانون الدولي أو بغيره.
أما الاحتلال الصهيوني، فهو حرٌ بأن يسمي هذا الانسحاب "إعادة انتشار" أو "فك ارتباط من طرف واحد" أو أي شيء آخر يريحه، فالجوهري هنا أن يكون هذا الانسحاب من دون قيدٍ أو شرطٍ، ومن دون أي تفاهماتٍ مع هذا المغتصب، وبعدها يكون لكل حادثٍ حديثٌ.
لقد أُجبِر الكيان الصهيوني سابقاً على الانسحاب من قطاع غزة في العام 2005، وقبل ذلك من جنوب لبنان في العام 2000. وفي كلتا الحالتين، كان انسحابه من دون قيدٍ أو شرطٍ، ومن دون أن يحصل على أية تفاهمات مع المقاومة التي دحرته عن الأراضي التي كان يحتلها، وهذه التجربة يمكن تكرارها في الأراضي المحتلة العام 1967.
أما عقيدة حركات المقاومة القائمة على تحرير كامل التراب الفلسطيني المحتل من رأس الناقورة إلى أم الرشراش، فهذا أمرٌ لا شأن للقوى الدولية به، ولا تجب مناقشته مع أيٍّ من هذه الدول، فإن أرادوا التضامن مع الشعب العربي ومساعدته على استعادة حقوقه، فعليهم الضغط على المحتلّ كي ينسحب من دون قيدٍ أو شرطٍ من الأراضي التي يحتلّها باعتراف القانون الدولي، وحجّة فصائل المقاومة في هذا قوية، فتكفي الإشارة إلى تجربة منظمة التحرير الفلسطينية على مدى العقود الثلاثة الماضية، وما سمي بـ"عملية السلام" وما انتهت إليه.
يرى البعض هذا الخطاب خطاباً متماسكاً، ويَصلح لمحاججة القوى الدولية الصاعدة به، فهو يضع الكرة في ملعبها، ولا يقدم في المقابل أي تنازلات عن الثوابت العربية والإسلامية في القضية الفلسطينية، ناهيك بكونه يتجاوز التنازلات التي قدّمتها منظمة التحرير الفلسطينية، والتي بات العالم يطالب الفلسطينيين بالالتزام بها، عوضاً عن مطالبة الاحتلال بالانسحاب دون قيدٍ أو شرطٍ من الأراضي التي احتلها العام 1967، بناءً على الشرعية الدولية التي تؤمن بها هذه القوى.
ويمكن القول ختاماً إنّ أيّ خطابٍ آخر تتبناه فصائل المقاومة الفلسطينية لا يلحظ فكرة وجوب انسحاب الاحتلال من دون قيدٍ أو شرطٍ، لا بد من أن يُدخِل الفصائل الفلسطينية في دوامةٍ تشبه دوامة خديعة "السلام"، إن لم تكن أسوأ. إذاً، ليخرج الاحتلال من الأراضي التي يحتلّها من دون قيدٍ أو شرطٍ أولاً. وعندها، يخلق الله ما لا تعلمون.