روسيا وأوكرانيا: حربٌ تُسمع ولا تُرى
مناخ من عدم الثقة لا يتغير بين موسكو وواشنطن، فيما اللاعبون الآخرون غير متمكنين من التأثير، سوى بالمشاركة بحرب إعلامية.
صعد التوتر في الأسابيع الأخيرة بين روسيا وأوكرانيا، ومن خلفها الغرب، إلى مستويات مرتفعة أنذرت باحتمال اندلاع مواجهة مباشرة، وهي مواجهةٌ كانت وشيكة وفق الاتهامات الغربية لموسكو بأنها تحشد ما يقارب 100 ألف جندي عند الحدود مع أوكرانيا، لكنّ الاتصال المتلفز بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأميركي جو بايدن في السابع من الشهر الحالي أدى إلى خفض مستوى التوتر بين واشنطن وموسكو، من دون أن ينسحب هذا الانخفاض على الأجواء بين الأخيرة وكييف.
يأتي الاتصال الرئاسي الثنائي بعد أجواء مختلفة سادت لقاءً جمع وزيري خارجية الدولتين سيرغي لافروف وأنتوني بلينكن في ستوكهولم، إذ ذكرت وكالة "بلومبيرغ" أن مشادة كلامية "حادة" وقعت بينهما بشأن أوكرانيا خلال مأدبة عشاء أقامتها منظمة الأمن والتعاون في أوروبا بحضور العشرات من الشخصيات الرسمية، وأن "هذا التوتر اللفظي ظهر في الوقت الذي تسعى الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون إلى إيجاد سبل، بما في ذلك عبر عقوبات محتملة، لمواجهة تهديد الغزو الروسي لأوكرانيا بعد حشد بوتين قواته على حدود الدولة المجاورة"، بحسب الوكالة.
ومن الطبيعي أن كلاً من الوزيرين تمسك بموقف بلاده من النزاع، مكرراً الرواية الرسمية لدولته حول المسألة، لكن اللافت في المعلومات التي نقلت عن اللقاء كان تأكيد بلينكن أمام لافروف أن حلف شمال الأطلسي هو "تحالف دفاعي".
هذا التأكيد تحديداً يعيدنا بالذاكرة إلى العام 1990، حين تفكك الاتحاد السوفياتي وانهار معه حلف وارسو، فيما احتفظت الولايات المتحدة بـ"الناتو" كتحالف عابر للأطلسي، ووسعت من مهامه لتشمل الحرب على الإرهاب، لتشركه في ما بعد باحتلال أفغانستان.
وفي مساره نحو المهام الجديدة، ضم حلف شمال الأطلسي 13 دولة في وسط أوروبا وشرقها، كانت معظمها من الدول الأعضاء في حلف وارسو، من دون أن يسمح الغربيون لروسيا بالانضمام حتى إلى الاتحاد الأوروبي، بعد أن شاركت في برنامج "الشراكة من أجل السلام" الذي كان يعتبر في بداية التسعينيات طريق الدول الشرقية نحو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
الترويج للحرب
تزامن التوتر الكبير خلال الأسابيع المنصرمة مع حملة واسعة رسمية وإعلامية غربية روّجت لمعطيات تفيد بأن روسيا سوف تغزو أوكرانيا بشكلٍ شبه حتمي، وحذرت من عواقب الإقدام على ذلك.
لقد حشدت الولايات المتحدة حلفاءها الغربيين في حملة متناغمة ضد روسيا التي أصرّت على تكرار موقفها بأنها لا ترغب في مهاجمة أوكرانيا. ومع التزام الشركاء الأوروبيين بالاتهامات نفسها، كانت واشنطن، ومعها كييف ولندن، تشكل المواقف الأكثر حدةً تجاه موسكو، فضلاً عن أن جزءاً من هذه الاتهامات استند إلى معطيات غريبة، كنشر صحيفة "بيلد" الألمانية خريطة الغزو الروسي المفترض لأوكرانيا، ليتبين أنها تعود إلى العام 1943، خلال الحرب العالمية الثانية، عندما كان السوفيات يصدّون هجوم جيش هتلر على بلادهم.
ترى موسكو اليوم أنّ الغرب يدفع كييف ويحفّزها للقيام بخطوات معادية لجارتها روسيا، فيما يؤدي اقتراب حلف الناتو من حدود الأخيرة إلى ازدياد الأوضاع تعقيداً، وينذر بانفجار كبير في المنطقة.
وفي ظل النفي الروسي والإصرار الغربي، أتت زيارة الرئيس الأوكراني لقواته القريبة من الحدود مع روسيا، إذ توعّد بالتصدي للغزو الخارجي وإحباط "المخططات العدوانية" ضد بلاده. وفي الوقت نفسه، فإن وزير الدفاع الأوكراني أوليكسي ريزنيكوف يواصل التحذير من هجوم روسي خلال أسابيع، استباقاً للقاء الذي جمع بوتين ببايدن عبر الفيديو.
لقد تم شحن الأجواء قبيل الاجتماع بأقصى درجات التوتر. وكما يبدو، إنّ الأمر مرتبط بما يمكن الاستحصال عليه من موسكو خلال اجتماع الرئيسين، من دون أن يعني ذلك تخفيف ثقل العقوبات الغربية المفروضة على موسكو، بل على العكس من ذلك، فإن مسار العقوبات لا يزال السلاح الأكثر تفضيلاً في تعاطي واشنطن مع خصومها.
كأنّ الحرب غداً
تم تصوير زيارة زيلينسكي إلى جبهة إقليم دونباس (شرق البلاد)، ومشاركته هناك في الاحتفال بالعيد الوطني للقوات المسلحة الأوكرانية، على أنّ البلاد دخلت أجواء الحرب فعلياً، وخصوصاً مع إشادة الرئيس الأوكراني بالروح القتالية لجيشه وقدرته على إحباط ما وصفها بالخطط العدوانية، وتأكيده الثقة بأنّ الجيش الأوكراني "سيواصل الدفاع عن حرية البلاد وسيادتها في وجه المعتدي الروسي"، فيما العدو المفترض يرى في هذه الاتهامات ضرراً له، ويؤكّد يومياً عدم نيته شنّ الهجوم من ناحية، ويحصر مطالبه من أوكرانيا وداعميها الغربيين بمطلب تنفيذ اتفاقيات مينسك، التي تلزم كييف بسحب الأسلحة الثقيلة والقوات الأجنبية من أوكرانيا، من ناحيةٍ ثانية.
ووصلت الحملة الإعلامية المروجة لأجواء الحرب إلى حد نشر توقعات "خبراء عسكريين" على مختلف وسائل الإعلام في أوكرانيا والغرب حول محاور الهجوم الروسي المفترض، وأن موسكو ستستخدم محاور عديدة من الشمال والبحر الأسود، إضافة إلى محور ثالث يقوده مواطنو الدونباس أنفسهم.
هذه المعطيات التي انتشرت في نطاقٍ واسع في الإعلام الغربي وفي أوكرانيا، أنتجت خوفاً لدى المتابعين من احتمال تدحرج الأمور نحو مواجهةٍ مباشرة بين موسكو وكييف، وعززتها تصريحات المسؤولين الغربيين الذين كرروا التعبير عن استعدادهم لدعم أوكرانيا، لكن هذا الاستعداد، وعلى الرغم من شموله الموقف الأميركي ومواقف برلين وباريس أيضاً، لم يتجاوز تحفيز الأوكرانيين أنفسهم، واستبعاد اندلاع مواجهة مباشرة بين الغرب وروسيا.
يعزّز هذا التوجّه الموقف الذي أعلنه الناطق باسم وزارة الدفاع الأميركية جون كيربي، الذي حدد إطار الموقف الأميركي في حال تطور الموقف إلى حالة اشتباك عسكري، حين أكد أن بلاده سوف تعزز دعمها لكييف، وترفع من مساعداتها العسكرية في حال تعرضها لهجومٍ روسي، وأنها ستزيد من مستوى دعمها للحلفاء في حلف شمال الأطلسي في هذه الحالة، إضافة إلى تطوير حزم عقوبات جديدة ضد موسكو.
هي إجراءات مؤثّرة من دون شكّ، لكنّها في معناها البعيد تشير إلى رؤيةٍ أميركية واضحة حيال الأزمة الأوكرانية ومآلاتها. عملياً، هي تقول للحلفاء الأوروبيين، وتحديداً أوكرانيا: نحن ندعمكم من بعيد، وأنتم تقاتلون الروس، ثم نكسب من جانبين. أولاً ستتزايد حاجتكم إلينا، وسنستعيد قبضتنا الحديدة على التحالف الغربي، بعد أن تراخت بفعل الاختلالات التي أحدثتها السنوات الأخيرة ونسق ترامب في التعاطي مع الحلفاء، إضافةً إلى التأثيرات التي أحدثها تأسيس حلف "أوكوس"، والطريقة التي جرى بها، والتي استفزت فرنسا، ومعها ألمانيا، وأعطت الحلفاء الآخرين رسالةً سلبية حول تعاطي واشنطن المحتمل معهم في المستقبل.
ثانياً، سوف نكسب من ناحية إحراج روسيا وإظهارها في موقف الدولة المعتدية على جيرانها، والساعية إلى الغزو الدائم للدول التي تطور علاقاتها مع الغرب. وبالتالي، سوف تمكن واشنطن من زيادة ضغوطها الاقتصادية على موسكو، واستخدام العقوبات الاقتصادية كسلاحٍ مفضل لها في التعاطي مع الأزمات الدولية هذه الأيام.
أما الحلفاء، وأوكرانيا تحديداً، فسوف يخسرون من ناحيتين أخريين؛ الأولى تتمثل بالمراهنة على الدعم الأميركي وخوض المعركة منفردين من دون واشنطن، ودفع الأثمان العسكرية والاقتصادية والسياسية والسيادية جراء هذه المواجهة، والأخرى تتمثل باستعداء روسيا، وهي الشريك الطبيعي مع الدول الأوروبية في تحصين الأمن الأوروبي، وصاحبة المصلحة المشتركة معهم في تأسيس نظام أمن إقليمي للفضاء المشترك بينهم، وبالتالي المخاطرة أيضاً بتدهور العلاقات الاقتصادية بينها وبينهم، وهي العلاقات الحيوية للجانبين، وخصوصاً حين يتركز البحث في مصادر الطاقة تحديداً.
خفض التوتر
على الرغم من أنَّ لقاء بوتين وبايدن لم يفضِ إلى نتائج كبيرة، بحسب المعطيات المعلنة من الجانبين أو تلك التي تسربت إلى وسائل الإعلام، فقد أحدث اللقاء (عبر حلقة فيديو خاصة) دفعاً إيجابياً باتجاه خفض منسوب التوتر حيال الأزمة، وأعاد تأكيد الطرفين لاهتمامهما بحلّ المسألة قبل وصولها إلى اللاعودة، مع بقاء موقفيهما متناقضين حيال الأزمة الأوكرانية برمّتها.
يرى الأميركيون أنَّ روسيا ليس من حقّها التدخل في شؤون أوكرانيا الداخلية، انطلاقاً من ضرورات الأمن القومي الروسي، وهم يذهبون أبعد من ذلك، ليعتبروا أن انزعاج موسكو من الأسلحة الثقيلة في أوكرانيا، ومن الترسانة الصاروخية التي يحاول الناتو تزنير روسيا بها، هي شؤون خاصّة بالدول التي تتخذ هذه الخيارات، من دون أن يكون لروسيا حق رفضها، بسبب تهديدها الأمن القومي الروسي.
هذا الموقف هو تماماً ما ترفضه الولايات المتحدة في أميركا الوسطى والجنوبية، حيث تتدخل بصورةٍ معلنة في الشؤون الداخلية للدول التي لا تسير في ركبها، بل إنّها تعلن عن خطواتها لإسقاط الأنظمة المناوئة لها هناك.
في كوبا وفنزويلا وبوليفيا والبرازيل وغيرها، نماذج صارخة عن تدخّل الولايات المتحدة في الحياة السياسية والاقتصادية للدول القريبة، ومحاولة تغيير الأنظمة ودعم المعارضات ومنظمات المجتمع المدني، وهي تصرف أموالاً طائلة في سبيل ذلك. وتبرر هذه التكاليف في الكونغرس بأنها جزء من جهود حماية الأمن القومي الأميركي.
إذاً، هي معايير مزدوجة في مسائل متشابهة، فهناك يحق للولايات المتحدة ما لا يحقّ لروسيا هنا. وهنا، على الأخيرة أن تنكفئ باهتماماتها إلى داخل حدودها حصراً، والسماح لتحالف عسكري ثبُت خلال 7 عقود من وجوده وتوسعه أنه تحالف هجومي، بأن يطوقها بصورةٍ شبه كاملة في المناطق الحيوية فيها، ويدفع كتلتها السكانية نحو الداخل والشمال، حيث الجليد، الأمور الذي سوف يجعلها دولة هامشية جائعة، بعد أن كانت قوةً عظمى تدفئ أوروبا بطاقتها.
الأمر شبيه كذلك بالمعايير المزدوجة التي تعتمدها واشنطن في الملف النووي الإيراني، إذ تطلب من طهران التزاماتٍ طويلة الأمد، استناداً إلى مبدأ استمرارية الدولة والسياسات العامة، ثم تنسحب من الاتفاقيات استناداً إلى مبدأ الديمقراطية وعدم إلزام الإدارات المقبلة بالتزامات الإدارة الحالية، فليس بين اتفاقيات مينسك والاتفاق النووي الإيراني للعام 2015 تشابهات كثيرة، سوى من ناحية الازدواجية الأميركية التي تستخدم العقوبات والضغط الاقتصادي وتفجير الأزمات المحيطة أسلوباً لتثبيت أمر واقع بشأنها.
في المقابل، تعتقد موسكو أنَّ سلطات أوكرانيا لا تنوي تنفيذ اتفاقيات مينسك بمحض إرادتها. ويرى وزير خارجيتها سيرغي لافروف أن أوكرانيا إذا تركت وحدها فهي حتماً لن تنفّذ أي شيء. لذلك، يجب أن يتم إجبارها على ذلك، وهذا بالضبط هدف إنشاء صيغة "نورماندي".
كما ترى موسكو أنَّ مماطلة برلين وباريس حيال إلزام كييف بتنفيذ اتفاقيات مينسك أمر يستدعي التنبيه ولفت النظر، فيما الحاجة ماسة اليوم لوقف إطلاق النار وسحب الأسلحة الثقيلة والقوات الأجنبية من أوكرانيا، إضافة إلى سيطرة الأخيرة على كامل حدودها مع روسيا.
وفي مكان غير بعيد من ذلك، تفاعلت أزمة اللاجئين على الحدود البولندية - البيلاروسية بصورةٍ تشبه محاكاة سيناريوات غير سعيدة لأوروبا، فيما لو تصرفت بأنانية مع الحاجات الأمنية الشرقية.
التوتر بين روسيا والغرب في أوكرانيا لا يزال مرتفعاً وخطراً، على الرغم من اجتماع الرئيسين بوتين وبايدن. مناخ من عدم الثقة لا يتغير بين موسكو وواشنطن، فيما اللاعبون الآخرون غير متمكنين من التأثير، سوى بالمشاركة بحرب إعلامية من المقالات والتصريحات والتهديدات.