دلالات مراجعة "إسرائيل" لانهيار مبنى حاكمها العسكري في صور

تأتي المراجعة الرسمية الإسرائيلية لحقيقة ما جرى عام 1982 في صور، على وقع ضغط سنوات من عوائل القتلى، ومعهم قادة في الشاباك تحدثوا في مهرجانات الذكرى، وأحرجوا قائد الشاباك الحالي.

  • دلالات مراجعة
    دلالات مراجعة "إسرائيل" لانهيار مبنى حاكمها العسكري في صور

صمت وظلام وطمس للحقيقة. ثلاث كلمات تتكرر منذ سنوات عديدة، وقد بلغت الذروة في وصف الرواية الإسرائيلية الرسمية لعملية نسف مقر الحاكم العسكري في صور، وهي تخيّم بالعادة على الكيان الإسرائيلي مع كل نازلة تلمّ به وبمنظومته الأمنية والعسكرية، حتى لو تسرب جانب منها في مواجهة حادّة مع العامل النفسي وآثاره الكارثية في تحطيم بنية المجتمع الإسرائيلي، وهو مجتمع مجازيّ يكمن عامل توحده الظاهريّ الأساس في قداسة هيبته العسكرية والأمنية.

تأتي المراجعة الرسمية الإسرائيلية لحقيقة ما جرى في صبيحة 11 تشرين الثاني/نوفمبر الماطرة 1982 على وقع ضغط سنوات من عوائل القتلى، ومعهم قادة في الشاباك تحدثوا في مهرجانات الذكرى، وأحرجوا قائد الشاباك الحالي رونين بار، فاضطر إلى نبش الدمّل. وحتى لا يتخثر قيحه في أروقة جهازه، أخذ معه "الجيش" والشرطة ليطال الجميع، وهو سيطال بلا شكّ كل إعلام السوء العربي الذي يتماهى بالعادة مع الرواية الإسرائيلية باعتبارها آخر القصيد. 

تتكثّف دلالات 40 سنة من الكذب الإسرائيلي في خرق آذان الطابور الخامس من الإعلاميين وأشباه المثقفين والكُتّاب، وبثّ الخزي في قلوب مَن كانوا فينا {سمَّاعون لهم}، بحسب التعبير القرآني، وكل سمّاعٍ فينا، معشر العرب والمسلمين، يفزع من كل ما يسوء وجوه بني إسرائيل، لتأتي مراجعة أقسى ضربة أقضت مضاجع الإسرائيلي، وقد وجد نفسه أمام فضيحة مدوية، وقد أزِف انكشافها بعد طول تمنّع، على أمل لملمة أطرافها.

وجاءت المبادرة إلى تشكيل فريق تفتيش رسمي في خلفية انهيار مبنى الحاكم العسكري الإسرائيلي، من الشاباك تحديداً، وهو الذي خسر فيه 9 من ضباطه، وأصيب كثيرون من بين مئات القتلى والجرحى في قوات حرس الحدود والجيش، في أعنف هجوم ضد الكيان الإسرائيلي في تاريخه.

وقع الهجوم اللبناني بعد 5 شهور من الاجتياح الإسرائيلي للبنان. كنت حينها صبيّاً في الصف السابع الأساسي. وقد لاحظت على مُدرّس التاريخ انفعالاً وهو يتصفح جريدة القدس داخل الصف، فرمقتها بعيني لأرى الخبر الاستثنائي. حُفرت تلك اللحظة في مخيلتي، كما داعبت عواطف الملايين من المستضعفين، وهم يرون شارون يقف مشدوهاً على أطلال 8 طبقات وقد دُمّرت كليّاً وهو ينعى قادة جيشه وضباطه وجنوده.

لم يختلف اثنان في صبيحة ذلك اليوم الشتويّ على أن الانهيار سببه هجوم فدائيّ، بما في ذلك هيئة الأركان في "الجيش" الإسرائيلي، وهي التي سجلته في يوميات قسم العمليات صبيحة الانهيار، باعتباره هجوماً بسيارة مفخخة، بحسب ما أوردته صحيفة "يديعوت أحرنوت" ضمن تحقيقاتها لسنوات عدة خلت، وهو ما تداولته كل وسائل الإعلام المتاحة في ذلك الوقت، ولكن فجأة قررت لجنة "زوريع" للتحقيق أن سبب الانهيار ناتج من تسرب للغاز في مطبخ حرس الحدود. وقد جزم قادة الشاباك وقتها أن هذه نتيجة قطعية لا شك فيها.

لكن عدداً من قادة الشاباك، منهم نائب قائد الجهاز وقتها نحمان تال، والمسؤول السابق في الشاباك تسفي بندوري، رفضوا الانصياع وظلوا بعد تقاعدهم يتابعون مع عائلات القتلى تحقيقات مكثفة للضغط على الجهاز لكشف الحقيقة. وقد اعتبروا أن طمس حقيقة هجوم صور الأول ساعد حزب الله في تنفيذ هجوم صور الثاني الذي تسبب أيضاً بعشرات القتلى والجرحى من الإسرائيليين.

3 سنوات مرّت على هجوم صور. انسحب "جيش" الاحتلال الإسرائيلي من المدن اللبنانية الجنوبية، منها مدينة صور، وانكفأ نحو شريط حدوديّ لبناني ظل يحتله، وكان هذا الانسحاب مناسبة ليكشف عقبه سماحة السيد حسن نصر الله، ولم يكن أميناً عاماً وقتها، عن حقيقة ما جرى، وأن منفذ الهجوم هو أمير الاستشهاديين أحمد قصير، ويعلن يوم استشهاده يوماً خاصاً للاحتفاء السنوي بشهيد حزب الله.

ضغط 3 سنوات كانت فيها أسرة أحمد قصير ترزح تحت الاحتلال المباشر في قرية دير قانون النهر، منع كشف السرّ، ولكنها 40 سنة من عمر الكارثة الإسرائيلية المدوية، لم تكن كافية سوى لتشكيل "فريق تفتيش مشترك لفحص المواد المتعلقة بكارثة صور، باستخدام التقنيات المتطورة التي لم تكن موجودة في وقتها"، في وقت تم رفض إشراك ممثلين عن عوائل القتلى في الفريق، فهل نحن أمام مسعى متجدد لطمس الحقيقة أو هي محاولة لتخريجها من دون تحميل مسؤولية لأحد حسبما يُرجح؟ 

تأتي هذه المراجعة الإسرائيلية لحدث بهذا الحجم، وبعد كل هذا الوقت الطويل، لتحمل جملة من الدلالات أو هي دروس بليغة ينبغي التوقف عندها:

أولها، سذاجة التماهي مع الرواية الإسرائيلية، وهو المعمول به في الطيف الإعلامي العربي، عبر تناولها ومتابعتها باهتمام ينمّ عن دونية عميقة، في تسليم لاعتبارها صادرة عن كيان يزعم الالتزام بالديمقراطية وحرية الصحافة، رغم أن واقع الحال لا يخفي أن الكيان الإسرائيلي قائم بكليته على زيف الشرعية، وقد قام على أطلال الشعب الفلسطيني، وهو محكوم منذ تأسيسه على البطش والإجرام، في ظل محاكم عسكرية ورقابة عسكرية تحصي الأنفاس.

ثانيها، التمهيد الإسرائيلي للاعتراف بعملية صور هو مناسبة لأخذ العبرة في تفنيد الرواية الإسرائيلية، وخصوصاً ما اتصل منها بميدان المواجهة. ولعل هزيمته الأخيرة في جنين، مع زعمه عدم وقوع قتلى، هي مناسبة لمحاسبات إعلامية فلسطينية وعربية جادة، بسبب عجز طواقمها عن توفير ما يفضح التكتم الإسرائيلي، في ظل قوة الانفجارات التي مزقت 10 من مدرعاته وآلياته العسكرية وأصابت واحدة من طائراته الحربية، والكمائن التي تطلبت عمليات إنقاذ واسعة لساعات طويلة. 

آخرها وأهمها مصداقية المقاومة، وهو ما تميزت به المقاومة اللبنانية في بياناتها العسكرية وتصريحات قادتها، حتى أصبح قول قائدها السيد حسن نصر الله يدفع أقاويل قادة الكيان وزعمائه، باعتراف الإعلام الإسرائيلي، الذي ما زال يتابع خطاباته بتغطية واسعة ومكثفة، وهو ما رأيناه مؤخراً في المؤتمر الصحافي لكتيبة جنين، وهي تفضح الكذب الإسرائيلي بما عرضته من تصوير حصري لمدى قوة تفجير مدرعة النمر، ولبقايا المدرعات والآليات.

ينهض أحمد قصير اليوم من جديد، وإن عبر النافذة الإسرائيلية التي غيّبته كعدو لا يرحم المحتلين، وتنهض معه مجدداً معالم شهيد حزب الله، وقد تراءت بعد طول نظر خلف كثبان من ضباب جبل عامل، لتتكون معه ألوان قوس قزح وهي تزهو بالدم القاني من صور حتى دير قانون النهر.