خطورة ما يُحاك للبنان من بروكسل

في أروقة برلمان الاتحاد الأوروبي يتم رسم أخطر مستقبل قد يفرض على لبنان في المرحلة الراهنة.

  • هل يجد لبنان لدى المجتمع الدولي أذناً تسمع احتياجاته؟
    هل يجد لبنان لدى المجتمع الدولي أذناً تسمع احتياجاته؟

في ذروة عملية التحضير للانتخابات لاختيار برلمان جديد للبنان، ومع احتدام معارك التجييش واستخراج الماضي من حقبة التاريخ اللئيم للتراشق بين الأطراف المتنافسة أملاً بالفوز بمستقبل كل يراه وفق مصالحه، يرسم في بروكسل، وتحديداً في أروقة برلمان الاتحاد الأوروبي، أخطر مستقبل قد يفرض على لبنان في المرحلة الراهنة، يتمثل بتغيير هويته وديموغرافيته ويضيف فوق أثقاله الاجتماعية أثقالاً لا يقوى على حملها، من شأنها تدمير ما تبقى له من هياكل بنى تحتية وفوقية.

ففي العاصمة البلجيكية، عقد في الساعات الأخيرة، اجتماع حول النازحين السوريين ضم أكثر من 200 مندوب من جمعيات المجتمع المدني العالمي والبرلمان الأوروبي، وكان وزير الشؤون الاجتماعية اللبناني هيكتور حجار كمن يغرد وحيداً خارج سرب المشاركين الذين امتعضوا وتوتروا من كلمته التي حاكت الوضع اللبناني، وعدم قدرة لبنان على حمل ثقل المشاكل والخسائر التي يتسبب بها وجود قرابة مليون ونصف مليون نازح سوري، أي ما يقارب ثلث سكان لبنان.

هذا الكلام لم يلق ما يمكن أن يغيّر ما هو مكتوب، على طريقة ما كُتب قد كُتب. استُشف هذا الأمر من اللقاءات الجانبية التي عقدها وزيرا الشؤون الاجتماعية هيكتور حجار، والخارجية عبد الله بو حبيب، على هامش لقاء بروكسل سواء مع مسؤولين أميركيين أو أوروبيين شاركوا في اللقاء المخصص للنازحين، حيث لم تكن الآراء متطابقة مع الجانب اللبناني وفق معلومات خاصة.

فما كُتب يُختصر بعنوان رئيسي هو دمج النازحين السوريين في البلدان المضيفة وأبرزها لبنان، مع ما يترتب على ذلك من تبعات تحت عناوين الأوضاع الإنسانية وحقوق الإنسان وحقوق العمل وسواها، وبحجة أن لا إمكانية لإعادتهم إلى بلدهم في ظل "نظام مجرم"، كما يصفونه.

وكان لافتاً مشاركة العديد من جمعيات ومؤسسات المجتمع المدني السورية المشكّلة من معارضين سوريين ممولين من البرلمان الأوروبي وجمعيات ومؤسسات من المجتمع الدولي. هؤلاء كان جل تركيزهم على المعاناة الإنسانية، وعلى ألا تحجب الحرب في أوكرانيا الاهتمام عن النازحين السوريين، من دون التطرق إلى أي من تبعات المعاناة التي تتحملها الدول المضيفة.

ما لمسه ممثلو لبنان في بروكسل خلال اللقاءات الأخيرة أو على مدى شهور عديدة خلت، أن لا أحد من المجتمع الدولي يفكر في إعادة النازحين إلى سوريا، وأن هناك خطة أساسها الاندماج، ومنح الإقامة للجميع، وفتح مجالات العمل لهم، وأن على الدولة تأمين مستلزمات هؤلاء المقيمين والانخراط في المجتمع، بمعزل عن خصائص الدول المضيفة والخصوصية الديموغرافية فيها ومدى إمكانياتها، وهي على أهميتها غير مدرجة على لائحة الاهتمام، ولو حتى من باب الإصغاء للدول المضيفة بمعزل عما إذا كانت آراء رسمية أو غير رسمية...

وما يفاقم مشكلة لبنان أن محاولات تجري للالتفاف على الدولة اللبنانية من خلال الجمعيات الشريكة لهؤلاء في لبنان، حيث يركنون إلى تقاريرها باعتبارها، من منظورهم، الوحيدة الموثوقة والشفافة، على خلاف التقارير الرسمية التي ينظرون إليها بعين التشكيك والافتقار إلى الشفافية والمصداقية وغرقها بالفساد.

ورغم تضامن لبنان الرسمي والحكومي حيال مسألة النازحين، ورغم تكليف لجنة وزارية تنسق بينها وبين الطرف السوري عبر وزير المهجرين ومع الأمم المتحدة عبر وزير الشؤون الاجتماعية، يبدو حتى الآن أن لا حلحلة دولية يمكن أن تساعد في التخفيف من ضغوط الأزمة الخانقة والمرشحة للمزيد.

وما يزيد الطين بلة أن مجموعات من المجتمع المدني اللبناني والمنظمات العاملة في بيروت، من بينها اليونيسف، تحاول جاهدة عبر لجنة تنسيق بين الوزارات أن تصدر الخطة الوطنية للحماية الاجتماعية، بحيث تسقط من أدبياتها تعبير نازحين أو لاجئين، مع استبدال تعبير "القاطنين" به، وتشمل في ما تشمل بمبادئها، إلى جانب النازحين واللاجئين، المواطنين اللبنانيين. 

ويذهب هؤلاء في بنود الخطة بعيداً كمثل أن يكون لـ"القاطنين" حقوق في التعويضات عن البطالة إذا كانوا عاطلين من العمل، إلى الحقوق بالتعويضات الشاملة عن الإعاقة والشيخوخة... ويضغطون عبر سبل متعددة لتحظى هذه الخطة بتوقيع الوزراء المعنيين بغية تحويلها إلى خطة رسمية معتمدة. 

يشار إلى أن الخطة باستراتيجيتها تنقل قيماً بعيدة عن قيم المجتمع اللبناني وتستبدل القيم المحلية بها، منها على سبيل المثال قبول المثليين وزواجهم.

في نهاية هذه الخطة، يبدو واضحاً هدف دمج النازحين واللاجئين السوريين في المجتمع اللبناني، وتحويل لبنان إلى وطن بديل لهم.

أما واقع النازحين السوريين في لبنان ومعاناة لبنان جراءه، كما عرضها وزير الشؤون الاجتماعية على المجتمعين في البرلمان الأوروبي في بروكسل، والذي يعتبر موقف لبنان الرسمي الجامع، فيتلخص بالآتي:

يستضيف لبنان حالياً حوالى مليون ونصف مليون نازح سوري مقابل 4 ملايين لبناني. هؤلاء السوريون هم "نازحون" وليسوا "لاجئين"، ويشكّلون 30٪ من سكان البلد، وتصل كثافتهم إلى 650 نسمة في الكيلومتر المربّع الواحد، أي ما يعادل لبلجيكا أكثر من 3 ملايين نازح لـ11 مليون نسمة، وهم يقيمون في خيم، في ظل ظروف لا تليق بالإنسانية، ويتوزعون على 1000 بلدة من البلدات اللبنانية الـ1050. لقد وصلوا لبنان محرومين من كل الموارد، ووضعهم في غاية الهشاشة.

أما عواقب استقبالهم في لبنان على مدى 11 عاماً فهي:

أولاً: العواقب الاقتصادية

تجفيف احتياطيات العملات الأجنبية، حيث يستفيد النازحون من الخدمات المدعومة من الدولة، مثل مصادر الطاقة كالكهرباء والمحروقات والمياه، والخدمات الطبية كالاستشفاء والدواء، والمواد الغذائية كالخبز وغيره.

ويمثّل استهلاكهم في الطاقة إنفاقاً إضافياً للدولة يصل إلى مليار دولار أميركي سنوياً، وفي الخبز المدعوم، إنفاقاً إضافياً بحدود 3 مليارات دولار إضافية، ناهيكم بفقدان اللبنانيين فرص عمل كثيرة، إذ إن معظم النازحين يمارسون نشاطاً اقتصادياً منافساً وغير شرعي، من دون أن يساهموا في دفع الضرائب.

ثانياً: العواقب الأمنية

تفاقم عدد السرقات والجرائم، فبحسب الإحصاءات الرسمية، يتضح أن 85٪ من الجرائم يرتكبها نازحون سوريون، وأن 40٪ من الموقوفين لدى الأجهزة الأمنية المختلفة هم من السوريين، وعودة صارخة لظاهرة المافيات، منها مافيات المخدرات والتهريب والاتجار بالبشر، بالإضافة إلى صعوبة الحفاظ على النظام الاجتماعي، وعدم قدرة الأجهزة الأمنية على ضبط الهجرة غير الشرعية عبر البحر.

ثالثاً: العواقب الاجتماعية

أبرزها التحوّل الديموغرافي للسكّان: كلما ولد طفلان، كان أحدهما سورياً، بالإضافة إلى جنوح الشباب السوري الذين ينشأون في ظروف اجتماعية واقتصادية وتعليمية سيئة، والعمالة غير القانونية للأطفال نتيجة التسرّب المدرسي، وزيادة حالات الزواج المبكر للفتيات ابتداءً من سن العاشرة، والاتجار بالأطفال والأعضاء، واستمرار النزاعات بين اللبنانيين والنازحين.

رابعاً: العواقب البيئية

من ذلك الطلب المفرط على الموارد الصحية، وتفاقم أزمة النفايات الصلبة في ظل الكلفة العالية لمعالجتها، والتي تبلغ 30 مليون دولار إضافي في السنة، عدا مشكلة الصرف الصحي، إذ ينتهي المطاف بالمياه الآسنة إلى تلويث المياه الجوفية والبحر الأبيض المتوسط، من دون إغفال الضرر الكبير الذي لحق بالبنى التحتية نتيجة زيادة المستخدمين لها.

الاحتياجات وخريطة الطريق

هذا العبء الذي يتحمّله لبنان منذ 11 عاماً بسبب النازحين، يستدعي الوقوف عنده حيث يمر لبنان بواحدة من أعنف الأزمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية والسياسية. والنتيجة أن 85٪ من اللبنانيين يعيشون تحت خط الفقر. 

ما تقدم، يستدعي من المجتمع الدولي ضمان العودة الآمنة والفورية للنازحين السوريين إلى المناطق الآمنة في وطنهم، وإعادة توظيف المساعدات المالية الحالية وتخصيصها للاستثمار في البنى التحتية في هذه المناطق السورية الآمنة، وتشجيع استقبال النازحين السوريين الذين يفتقدون أسباب موجبة لعودتهم إلى بلدهم، في دول بديلة غير لبنان، وتعويض لبنان الذي تكبّد حتى الآن خسائر تقدر بنحو 30 مليار دولار أميركي، من خلال خطة موزعة على فترة زمنية محدّدة.

يبقى السؤال: هل يجد لبنان لدى المجتمع الدولي أذناً تسمع احتياجاته؟ 

المصادر تبدي تشاؤماً، ولا ترى في القريب العاجل ولا المتوسط أو البعيد أي بارقة يؤمل من خلالها بداية انفراج.