حصار ناغورنو كاراباخ: ضريبة الحرب الأوكرانية
على الرغم من أنَّ الاتفاقية الثلاثية (روسيا - أذربيجان – أرمينيا) الموقعة في 2020، تنصّ على أن "تضمن أذربيجان السفر الآمن على طول ممر لاتشين في كلا الاتجاهين"، فإنَّ الأذريين اليوم يفرضون حصاراً على الأرمن في ناغورنو كاراباخ.
بذرائع بيئية واهية، وبسبب ما قالوا إنه استخراج غير شرعي للمعادن يقوم به الأرمن في المنطقة، قام متظاهرون أذريون في 12 كانون الأول/ديسمبر بقطع ممر لاتشين؛ الطريق الوحيد الذي يربط ناغورنو كاراباخ بأرمينيا، الأمر الذي أدى إلى عزل سكان الإقليم عن العالم، وقطع الإمدادات الحيوية والغذائية عن الإقليم، وكاد يتسبب بكارثة إنسانية، وخصوصاً بعدما قامت أذربيجان في اليوم التالي بقطع إمدادات الغاز عن منطقة ناغورنو كاراباخ الخاضعة للسيطرة الأرمينية.
وضربت أذربيجان بعرض الحائط كلّ الاعتبارات الإنسانية، وصمّت آذانها عن المناشدات العالمية التي دعتها إلى فكّ حصارها عن الإقليم، والتي تتخوف من حصول كارثة إنسانية، إذ قال البابا فرنسيس إنه "قلق بشكل خاص بشأن الظروف الإنسانية الهشة التي يعيشها السكان، والتي قد تتدهور خلال الشتاء"، ودعا "جميع الأطراف إلى الالتزام بإيجاد حلول سلمية لما فيه خير الشعب"، وحذّر الأميركيون من أن إغلاق ممر لاتشين له "عواقب إنسانية خطرة"، و"يقوض عملية السلام الهشة" بين البلدين.
وعلى الرغم من أنَّ الاتفاقية الثلاثية (روسيا - أذربيجان – أرمينيا) الموقعة في 9 تشرين الثاني/نوفمبر 2020، والتي وضعت حداً لحرب كاراباخ الثانية، تنصّ على أن "تضمن أذربيجان السفر الآمن على طول ممر لاتشين في كلا الاتجاهين للمدنيين ووسائل النقل والبضائع"، فإنَّ الأذريين اليوم يفرضون حصاراً على الأرمن في ناغورنو كاراباخ، متذرعين بأنَّ الاتفاقية انتهكت مرات عدة، وأن الأرمن يتسبّبون بأضرار بيئية للأراضي التي سيعيد الأذريون توطينها قريباً من خلال الاستمرار في تشغيل مناجم المعادن الملوثة في أجزاء من ناغورنو كاراباخ التي لا يزال الأرمن يسيطرون عليها.
اليوم، يدفع الأرمن في إقليم آرتساخ (التسمية الأرمنية للإقليم) أو ناغورنو كاراباخ ضريبة مزدوجة، فإضافةً إلى الهزيمة التي مُنيت بها القوات الأرمينية عام 2020، ما اضطرها إلى القبول بشروط مجحفة لوقف إطلاق النار والتخلي عن العديد من الأراضي، حتى ضمن أراضي أرمينيا، فإنّ الأرمن يدفعون أيضاً ثمن التطوّرات التي استجدت بعد الحرب في أوكرانيا.
منذ انتهاء الحرب بين الطرفين عام 2020، تستمرّ أذربيجان في محاولات تغيير الخرائط في منطقة القوقاز وتهديد الأمن القومي لكلٍّ من أرمينيا وإيران، ويستغل الأذريون الصراع في أوكرانيا للاستفادة من انشغال الروس بالنزاع الأوكراني لقضم المزيد من الجغرافيا في ناغورنو كاراباخ، ومحاولة قطع الممر الذي يربط أرمينيا بإيران، ما يجعل أرمينيا دولة معزولة محاطة بالأعداء من كل صوب، ويغيّر موازين القوى على الحدود مع إيران.
يعتمد الروس في الوقت الراهن على إدارة النزاع ودبلوماسية الهاتف والتواصل بين الرؤساء ومحاولة مسك العصا من الوسط، لكن أذربيجان التي تعيش وهم فائض قوة عسكري وسياسي في المنطقة تراهن على أن تكسب في القوقاز نتيجة النزاع المتطور في أوكرانيا، لتحصل من جنود السّلام الروس على تنازلات لمصلحتها في المنطقة، وتراهن أيضاً على التسبب بكارثة إنسانية وغذائية وصحية في منطقة جبلية تغمرها الثلوج، ما يدفع سكان الإقليم الأرمن إلى هجرة نهائية من هناك بسبب صعوبة العيش، فتسيطر على الأرض بعد أن يهجرها أهلها.
لا شكّ في أن سكان ناغورنو كاراباخ في وضع لا يحسدون عليه، فمن غير المتوقع أن يقوم الروس بفك الحصار عن الإقليم وفتح الطريق في ممر لاتشين بالقوة، لأنَّ ذلك سوف يقوّض العلاقات مع أذربيجان، وهو ما لا تريده موسكو التي ترتبط بمصالح إستراتيجية مع أذربيجان.
في المقابل، تدرك باكو أنَّ الأوروبيين يحتاجون إلى تأمين مصادر للغاز بديلاً من الغاز الروسي، ما يعطيها رافعة جيوبوليتيكية وسياسية. لذا، من غير المتوقع أن يضغط الاتحاد الأوروبي على أذربيجان لوقف حصارها والعودة إلى الترتيبات السابقة.
واقعياً، تزداد جرأة أذربيجان بشكل متزايد بسبب سكوت الروس وتجاهلهم ما يقوم بها الأذريون في الإقليم وعدم رغبتهم في التصعيد، إذ تصف وسائل الإعلام الأذرية الموالية للحكومة في البلاد قوات حفظ السلام الروسية بـ"قوات احتلال"، وتحمّلها المسؤولية عما تسميه "تفلّت الأمور في المناطق التي يسيطر عليها الأرمن"، ومحاولة تأليب السكان على قوات حفظ السلام الروس لطردهم من المنطقة، وذلك بإلقاء اللوم في قطع الطريق على تلك القوات حيناً، وأحياناً أخرى اتهامهم بأنهم "أرمن مقنّعون".
وتراهن باكو على رغبة الأوروبيين في الاستفادة من التطورات لنشر "قوات حفظ سلام أوروبية طويلة الأمد في أرمينيا للمساعدة في إحلال السلام الدائم في جنوب القوقاز"، كما أعلن مفوض الاتحاد الأوروبي لشؤون الأمن والخارجية، جوزيب بوريل، وذلك بهدف تعزيز حضور الاتحاد الأوروبي في جنوب القوقاز ومنافسة الروس في محيطهم الجغرافي.