جنوب أفريقيا.. عقود من الثبات في مناصرة فلسطين
لقد ترجمت جنوب أفريقيا مشاعرها تجاه فلسطين بصورة عملية، من خلال مواقف متعددة ظلت تتخذها في كل منعطفات القضية الفلسطينية وفي كل الأوقات التي يتعرض فيها الشعب الفلسطيني للعدوان.
مثّل عام 1948 عاماً للنكبة في فلسطين، التي أسّست فيها الحركة الصهيونية نظاماً كولونيالياً استيطانياً إحلالياً، وادّعى الاحتلال الصهيوني أن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض.
وفي العام ذاته نُكبت جنوب أفريقيا بتأسس المستوطنين البيض نظاماً كولونيالياً استيطانياً إحلالياً فيها، وادّعوا كذلك أن جنوب أفريقيا أرض خالية من السكان. ومنذ ذلك التاريخ، وانطلاقاً من السردية الكاذبة ذاتها بشأن الأرض والسكان في فلسطين وجنوب أفريقيا، نشأ نظامان يحملان الملامح والتوجهات ذاتها، الاستعمارية والعنصرية والرافضة للسكان الأصليين، والهادفة إلى السيطرة على الأرض والثروات والتاريخ.
في عام 1994، وبعد نضال استمر أكثر من ستة عقود، نجح المؤتمر الوطني الأفريقي في إسقاط نظام الفصل العنصري في بلاده، وأسس دولة تنشد قيم الحرية والاستقلال والعدل والكرامة الإنسانية، لكن قائد هذا النضال الزعيم نلسون مانديلا عَدّ أن استقلال بلاده لم يكتمل لأن فلسطين لم تتحرر بعدُ. وهنا تأسست سردية جديدة من بين فَرْثٍ وَدَمٍ. ومن صدقها أصبحت إلياذة للشعب الجنوب أفريقي يعبّر من خلالها عن ارتباطه بفلسطين، ووحدة المصير بين فلسطين وجنوب أفريقيا.
منذ بداية حقبة الحكم الوطني في جنوب أفريقيا، ظلت مواقف السلطة والشعب مناصرة لفلسطين وداعمة لقضيتها ونضالاتها، فلقد اعترفت بدولة فلسطين في عام 1995، وتبادلت معها التمثيل الدبلوماسي. وزار نلسون مانديلا غزة في تشرين الأول/أكتوبر 1999، واستقبله الفلسطينيون بأفضل ما يُستقبل به زعيم تحرري استقلالي من شعب ظل يناضل من أجل الحرية والاستقلال.
ومانديلا، الذي رسّخ الارتباط بين القضية الوطنية في بلده وقضية فلسطين في الوجدان الشعبي في جنوب أفريقيا، كان يرى في ياسر عرفات مرآة تعكس صورة نضالاته الوطنية. وفي تقديمه لكتاب "عرفات متى لم يكن هنا"، والذي ألّفته نانسي دوبرو، قال مانديلا عن ياسر عرفات: لقد آمن به شعبه وسار معه خطوة بخطوة في السراء والضراء. وقال: كنت أتابع نشاطات عرفات من غياهب سجني، وأثار اهتمامي في ثباته ومثابرته.
لقد ترجمت جنوب أفريقيا مشاعرها تجاه فلسطين بصورة عملية، من خلال مواقف متعددة ظلت تتخذها في كل منعطفات القضية الفلسطينية وفي كل الأوقات التي يتعرض فيها الشعب الفلسطيني للعدوان من آلة الحرب الصهيونية، وتجلّى ذلك في المواقف التي أعلنتها الدولة، وتلك التي اتخذها الشعب. ومن الأمثلة على ذلك:
- دعم نلسون مانديلا والشعب الجنوب أفريقي للشعب الفلسطيني في إبان الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، ولم تثنِه عن ذلك الضغوط الدولية التي مورست عليه.
- وقوف جنوب أفريقيا، رسمياً وشعبياً، إلى جانب الشعب الفلسطيني في كل مرة تعرض للعدوان الصهيوني، وخصوصاً في أثناء العدوان الصهيوني على غزة في الفترة 2008-2009، وفي عام 2012، وعام 2014، وفي عام 2018، وفي العدوان الأخير على غزة، والمستمر منذ نحو 7 أسابيع.
وصاحبت هذا التأييد إجراءات دبلوماسية اتخذتها حكومة جنوب أفريقيا تجاه "إسرائيل" استدعت عبرها سفيرها من "تل أبيب"، ومنعت في بعضها زيارة الوزراء وكبار المسؤولين لـ"دولة" الاحتلال. وترافقت مع ذلك إجراءات ذات طابع اقتصادي، على النحو الذي دعا إليه مؤتمر نقابات جنوب أفريقيا، والذي صوب نحو مقاطعة السفن الإسرائيلية، ومقاطعة مجلس الاتحادات التجارية الأفريقية في عام 2006 للبضائع الإسرائيلية، والسماح بدخول البضائع ذات المنشأ الفلسطيني.
- استقبال السلطات الجنوب أفريقية في آذار/مارس من عام 2015 وفداً من قيادة حركة حماس، الأمر الذي أثمر توقيع مذكرة تفاهم بينهما، وأدى إلى اشعال غضب "إسرائيل".
- إدانة رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا وكبار مسؤولي وزارة الخارجية العدوان الإسرائيلي على غزة، والذي دخل الآن أسبوعه السادس، وانتقدوا قادة الاحتلال الإسرائيلي بسبب الحرب على غزة، ودعوا المحكمة الجنائية الدولية إلى التحقيق معهم بشأن "جرائم حرب محتملة".
وفي زيارته يوم الأربعاء الماضي لقطر، أكد رامافوزا معارضة بلاده الحرب الإسرائيلية على غزة، وخصوصاً "أنها تستهدف الآن المستشفيات"، علما بأن حكومته استدعت دبلوماسييها من "تل أبيب" من أجل التشاور على خلفية الوضع الحالي في المنطقة، في وقت يشهد البرلمان الجنوب أفريقي دعوات إلى إغلاق سفارة الاحتلال وتعليق العلاقات الدبلوماسية معها حتى توافق "إسرائيل" على وقف إطلاق النار.
ويُعَدّ هذا الموقف أقوى المواقف الرسمية حتى الآن، ويتفوق في قوته على مواقف الأنظمة العربية المطبعة مع "إسرائيل"، وتزامن مع كل مظاهرات شعبية مناصرة لفلسطين ومنددة بالعدوان الصهيوني، وسبق هذه المظاهرات صدور قرار عن الدولة يقضي بإعفاء الفلسطينيين من تأشيرة الدخول لدولة جنوب أفريقيا.
- نجاح الجهود المشتركة بين جنوب أفريقيا والجزائر، والتي أدت إلى الحيلولة دون منح "إسرائيل" عضوية مراقب في الاتحاد الأفريقي، على الرغم من موقف رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي المناهض للموقف المشترك للجزائر وجنوب أفريقيا.
إنّ جنوب أفريقيا دولة مهمة جداً في الفضاء الأفريقي والفضاء الدولي، وتكتسب أهميتها من موقعيها الجيوسياسي والجيواستراتيجي، ومن مكانتها ومواقفها السياسية، ومن قدراتها الاقتصادية وإمكاناتها التكنولوجية، الأمر الذي أهّلها للاضطلاع بأدوار بالغة الأهمية على المستوى الدولي. ووجودها ضمن منظومة "بريكس" خير شاهد على هذه المكانة وذلك الدور.
ودولة، لديها مثل هذه المكانة ومثل تلك المواقف الإيجابية تجاه القضايا الكبرى، كقضية النظام الدولي الذي تعمل من أجل تغييره من خلال وجودها في منظومة "بريكس"، ومواقفها تجاه القضية الفلسطينية، يستدعى تأسيس مقاربة عربية جديدة في التعاطي معها، بعيداً عن المقاربات التقليدية الباردة التي تعجز عن توظيف كل هذه القدرات والإمكانات في مشروع شراكة استراتيجية بين الدول العربية وهذه الدولة، بصفة خاصة، وسائر الدول الأفريقية، بصورة عامة، تعود على الفضاء العربي ـ الأفريقي بالخير الوفير، في الحاضر والمستقبل.