تاريخ حرب العقوبات الأميركية
لا نستطيع إنكار الأثر السلبي الذي تتركه العقوبات الأميركية على الدول والشعوب، لكنّ سؤالاً واحداً يبقى في حاجة إلى إجابة.
مرّر الكونغرس الأميركي قبل أسابيع نسخة جديدة من قانون ماغنيتسكي، وذلك بعد نقاش حاد وإجراء تعديلات أدّت إلى توسيع دائرة الأفراد والكيانات التي يطالها القانون.
يرتبط قانون ماغنيتسكي الأصلي بإدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما التي أقرته في عام 2012. أمّا قصة القانون فترتبط بالمحاسب الضريبي الروسي سيرجي ماغنيتسكي، الذي تُوُفّي في سجنه في موسكو عام 2009. كان القانون بداية وُضِع لمعاقبة الشخصيات الروسية التي تسببت بوفاة ماغنيتسكي، ولهذا حمل القانون اسمه.
كان ماغنيتسكي متَّهَماً بجرائم ضريبية تتعلق بتسهيل بيع أسهم شركة "غاز بروم" لشركات وهمية، ومساعدتها على التهرب الضريبي في عام 2004. اعتُقِل ماغنيتسكي عام 2009 وتوفي في سجنه بسبب الإهمال الطبي، بحسب السلطات الروسية وعائلته، بحيث كان يعاني حصيات في المرارة أدت إلى التهاب حاد في البنكرياس، وتأخرت إدارة السجن في تقديم الرعاية الطبية اللازمة إليه.
فجأة، ظهر المستثمر الأميركي – البريطاني بيل برادور، صاحب شركة "أرميتاج"، التي كان ماغنيتسكي أحد موظفيها، والمتهمة بقضية تتعلق بالتزوير والتهرب الضريبي، وأعلن أنه يملك أدلة قاطعة على قيام السلطات الروسية بقتل ماغنيتسكي بسبب كشفه وجود فساد ضريبي داخل الدولة الروسية. قُدِّمت القضية أمام المحاكم البريطانية والسويدية والسويسرية، ومحكمة حقوق الإنسان الأوروبية، وكلها وصلت إلى نتيجة واحدة مفادها عدم وجود أدلة على قيام ماغنيتسكي بأي تحقيق متعلق بالفساد، إلّا ما ادّعاه برادور من دون أدلة، وكذلك عدم وجود أدلة على عمل جرمي وراء وفاة ماغنيتسكي.
على الرغم من ذلك فإنّ الولايات المتحدة قررت، في عام 2012، إيقاع العقوبات على روسيا بتهمة ارتكاب "انتهاكات فادحة" لحقوق الانسان، وفرضت على حلفائها تبنّي قوانين مشابهة، وامتثلت لهذا القانون كل من أستونيا، بريطانيا، كندا، ليتوانيا، ولاتفيا.
التعديل الأخير على قانون ماغنيتسكي وسّع صلاحيات الرئيس الأميركي في فرض العقوبات على الكيانات والأفراد بعد تعديل نصه من "ارتكاب انتهاكات حادة" ليصبح "ارتكاب انتهاكات جديّة" لحقوق الإنسان، وتُرك للرئيس الأميركي الحق في تحديد مدى جديّة هذه "الانتهاكات" المزعومة.
أشهر سلسلة عقوبات غربية هي تلك التي اتخذها الغرب الرأسمالي ضد الاتحاد السوفياتي السابق، وهو ما عُرف بالستار الحديدي، والذي عُدَّ أحد أسباب انهيار المنظومة الاشتراكية. تُعَدّ كوبا أقدم دولة ترزح تحت نير العقوبات الأميركية، فتمّ فرض العقوبات على كوبا منذ عام 1960، استناداً إلى ستة قوانين أميركية، هي: قانون التجارة مع العدو (1917)، قانون المساعدات الخارجية (1961)، لوائح مراقبة الأصول الكوبية (1963)، قانون الديمقراطية الكوبية (1992)، قانون هيلمز – بيرتون (1996) وقانون إصلاح العقوبات التجارية وتعزيز الصادرات (2000).
أمّا إيران فتعرَّضت للعقوبات بدءاً من عام 1979 بموجب الأمر التنفيذي 12170، وتم تشديد هذه العقوبات على مراحل في الأعوام 1987، 1995، و2007، لتصل ذروتها في العقوبات التي أعاد فرضها وتشديدها الرئيس السابق دونالد ترامب، بعد الانسحاب من الاتفاق النووي عام 2018. ووصل عدد العقوبات المفروضة على إيران إلى 1500.
نالت سوريا نصيبها من العقوبات بدءاً من عام 1979، وكان الرئيس الأسبق جورج بوش أصدر ثمانية أوامر تنفيذية تقضي بإيقاع العقوبات على أفراد وكيانات سياسية واقتصادية. استمرت سلسلة العقوبات إلى زمن الرئيس باراك أوباما، الذي أصدر سلسلة من الأوامر التنفيذية، أوقعت العقوبات على البنك التجاري السوري اللبناني في بيروت، وشركة سيريتل للهواتف المحمولة، ثم أصدر أمراً تنفيذياً في عام 2011 يحظر التعامل بالمنتوجات النفطية مع سوريا.
في عام 2016، أقر الكونغرس الأميركي قانون قيصر، الذي مثّل تطوراً نوعياً في تطبيق العقوبات على خصوم الولايات المتحدة. لم يكتفِ القانون بتطبيق العقوبات على الدولة المستهدَفة، سوريا، بل شمل كل الدول والكيانات الاقتصادية والأفراد التي تتعامل مع الحكومة أو الشركات السورية. وفي عام 2017، أقرّ الكونغرس "قانون مكافحة أعداء الولايات المتحدة"، وهو قانون يشبه في جوهره قانون قيصر، استهدف إيران وروسيا وكوريا الشمالية.
لا يتَّسع مقال، أو حتى كتاب، لسرد تاريخ العقوبات الأميركية، التي طالت كثيراً من الدول، مثل ليبيا، فنزويلا، العراق، الصين والسودان. ولا نستطيع إنكار الأثر السلبي، والمدمّر أحياناً، والذي تتركه العقوبات الأميركية على الدول والشعوب. لكنّ سؤالاً واحداً يبقى في حاجة إلى إجابة: لماذا تستمر الولايات المتحدة في فرض العقوبات على الدول على الرّغم من الفشل المتكرّر؟ فلا الثورة الكوبية أو الإيرانية سقطت، ولا الدولة السورية هُزمت أو انهارت، ولا الصين تراجعت اقتصادياً، ولا روسيا تردَّدت في فرض مصالحها على خصومها بالدبلوماسية أو بالقوة.
تنحصر الإجابة عن هذا السؤال في هدفين رئيسَين، يسعى الغرب الرأسمالي لتحقيقهما. الأول هو محاصرة الخصوم السياسيين، ومنع تمدد تأثيرهم السياسي إلى خارج حدود أوطانهم، وفي النهاية الحد من الخسائر السياسية التي يمكن أن تسبّبها الأفكار الثورية والتيارات الاستقلالية، وضمان استمرار الهيمنة الغربية على العالم.
الهدف الثاني يتمثل بشن حرب على وعي المواطنين عبر إيقاع أكبر أذىً ممكن بالاقتصاد المحلي وبالظروف المعيشية اليومية، الأمر الذي يؤدي إلى خلق حالة من الرفض والتململ الشعبيَّين، ويتيح الفرصة في ظهور بؤر توتر داخلي، أو حتى تمرد شعبي، ليشكل الأمر ضغطاً على حكومات الدول المستهدَفة من أجل تقديم تنازلات سياسية إلى الغرب الاستعماري. وفي حال فشل الاضطرابات الداخلية في تحقيق الهدف، فإن الوعي الشعبي يصبح حاضراً لاستقبال الغزو الاستعماري بصفته مخلّصاً وليس احتلالاً، وهو ما حدث في العراق وليبيا.
لتحقيق هذا الهدف، لم تتورع الإمبريالية الغربية عن منع الغذاء والدواء عن الشعوب، بل وصل بها الإجرام إلى حدّ إعاقة وصول اللقاحات، كما حدث في أثناء جائحة كورونا في اليمن وسوريا.
يقف العالم اليوم في مواجهة الوحش الإمبريالي وهو لا يملك إلّا خياراً من اثنين: المقاومة أو الاستسلام.
لقد اختارت القوى الوطنية الحية في العالم المقاومة، وها هي دول كبرى في العالم تنضم إلى هذا الخيار وتتصدى للعدو الإمبريالي، اقتصادياً وعسكرياً. لكنّ الانتصار على المشروع الاستعماري في منطقتنا لن يتحقّق إلّا في حشد الطاقات البشرية والاقتصادية والعسكرية داخل محور المقاومة، لنشكّل جبهة متماسكة، تكون جزءاً من العالم الجديد الآخذ في التشكُّل.