بين تصريحات إردوغان والواقع العملي: دمشق تضع النقاط على الحروف
من المتوقّع أنْ تشهد العاصمة العراقية، بغداد، اجتماعاً بين مسؤولين سوريين وأتراك، في أقرب وقت ممكن، لكنّ توقّع صدور نتائج كبيرة وفارقة عن اجتماع كهذا، يبقى بعيد المنال عمليّاً.
للمرّة الأولى، وبينما كان يُدلي بصوته في أحد مراكز الاقتراع الخاصة بانتخابات "مجلس الشعب" يوم الثلاثاء الفائت، ردّ الرئيس السوريّ، بشار الأسد، بشكل مباشر على الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، متناولاً العلاقات السورية – التركية وآفاقها والاحتمالات المتعلّقة بمسار تطوّرها، وتحديداً ما يخصّ أيّ لقاء محتمل مع الرئيس التركيّ.
جاء التصريح المطوّل والمفصّل الذي أدلى به الرئيس الأسد، كردّ سوريّ واضح انتظره المتابعون والمراقبون لأسابيع، وكجوابٍ على عدد من التصريحات اللافتة التي صدرت مؤخّراً عن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، والتي بدا من خلالها وكأنّ حلّ جميع المشكلات المعقّدة بين البلدين، وإعادة تطبيع العلاقات، الدبلوماسية والشخصية، قد تتمّ بعد أنْ تُكسر طبقات الجليد المتراكمة بين الرئيسين، خلال لقاءٍ، "في أنقرة أو أيّ مكان من العالم"، دعا إليه إردوغان بإلحاحٍ لمرات عديدة خلال الأسابيع الأخيرة.
أسهبَ الرئيس الأسد في شرح الجدوى من لقاءٍ كهذا، خصوصاً في ظلّ عدم تقديم أنقرة أيّ جديد في ما يخصّ ضماناتها المكتوبة حول انسحاب قواتها العسكرية من الأراضي التي تحتلّها في الشمال السوريّ، وتوقّفها عن دعم التنظيمات الإرهابية والفصائل المسلّحة التي تُقاتل الجيش والدولة في سوريا.
وقد وجّه الرئيس الأسد أسئلة حول تلك الضمانات الواجبة التي تُسهّل عقد لقاء كهذا، وعن مرجعيّة اللقاء وأسسه وقواعده التي من المفترض أنْ يُعقَد بناءً عليها. وكان الرئيس الأسد أكثر وضوحاً ومباشَرَةً حين سأل عن سبب خروج العلاقات السورية – التركية عن مسارها الطبيعي الذي كان سائداً قبل 13 عاماً. أي بكلامٍ آخر، أكّد الأسد على الجملة التي وردت في ختام بيان الخارجية السورية، الذي صدر قبل التصريح الرئاسيّ بيومين، والتي رأت أنّ استئناف العلاقات بين البلدين "يعتمد على عودة الوضع الذي كان سائداً قبل العام 2011".
اللافت هنا بدايةً، أنّه وعلى الرغم من الظروف المعيشية القاسية التي يختبرها المواطن السوريّ، بسبب الحصار الاقتصاديّ والاحتلال والمعارك، التي كانت أنقرة سبباً رئيسيّاً فيها، فإنّ ردّة فعل الشارع السوري على بيان الخارجية ثم على تصريح الرئيس، كانت إيجابيّة جدّاً، ومن الواضح أنّ هذا المواطن بدوره، لا يرضى بتقديم أيّ هدايا مجانيّة للرئيس التركيّ، بعد كل ما حصل، ورغم كل هذا الضيق والحاجة إلى أي انفراج جديد.
ولعلّ الردّ الرسميّ التركيّ الوحيد الذي يمكن أخذه بعين الاعتبار، بعد بيان الخارجية السورية، واعتباره كاشفاً لنيّات أنقرة على هذا الصعيد، هو تصريح وزير الخارجية التركيّ، حاقان فيدان، خلال مؤتمر صحفيّ جمعه بوزير الخارجية السعوديّ، يوم الأحد الفائت.
فقد اعتبر فيدان، أنّ ثمّة ثلاث مناطق في سوريا، منطقة تسيطر عليها "التنظيمات الإرهابية" (وهو يقصد هنا "قسد" والأحزاب الكردية بالطبع)، ومنطقة تسيطر عليها "المعارضة السورية" (التي ترعاها وتدعمها أنقرة)، ومنطقة يسيطر عليها "النظام" (كرّر فيدان مصطلح "النظام" أكثر من مرة عند الإشارة إلى الدولة السوريّة).
وفي حين شدّد وزير الخارجية التركيّ على دعم بلاده "المعارضة السورية"، وأكّد أنّ تخلّي أنقرة عن هذه المعارضة غير وارد أبداً، بل أشار بوضوح إلى تعاون ما سمّاه بـ "الجيش الوطني" مع القوات التركية في "محاربة الإرهاب" لعدة سنوات، فإنّه لم يكشف، ولو تلميحاً، عن أيّ نية لدى أنقرة للمساعدة في تغيير الواقع المفروض في الشمال السوريّ، حيث التنظيمات التي تصنّفها دمشق إرهابيّة وتخوض معها معارك ضارية منذ أكثر من عشر سنوات.
ويُفهم من تصريحات فيدان تلك، أنّ أكثر ما تبتغيه أنقرة من دمشق، ومن تطبيع العلاقات معها، هو محاربة التنظيمات الكردية معاً، والتسهيلات الاقتصادية التي تسمح لها بنقل بضائعها إلى دول الخليج والمنطقة العربية، بينما لم تنظر أنقرة، حتى اللحظة، إلى التعريف السوري للإرهاب، بواقعية ومسؤولية، ولم يُترجم مسؤول تركيّ واحد، أو يشرح الكيفية التي ستساعد بها بلاده في الحفاظ على "وحدة الأراضي السورية وسيادتها"، التي تتردّد دائماً على ألسنتهم.
اللافت جدّاً أيضاً، أنّه وبينما كان الرئيس التركيّ يُدبّج أجمل العبارات المُرحّبة بالرئيس الأسد في أنقرة حين يشاء، ويتحدّث عن مصلحة تركيا وسوريا في إعادة إصلاح العلاقات وتمتينها، كانت التنظيمات الإرهابيّة المسلّحة التي تسيطر عليها تركيا بشكل كامل، وخصوصاً "الحزب التركستاني الإسلامي" و"هيئة تحرير الشام"، تُرسل سرباً من الطائرات المسيّرة لتغيْر على مواقع عسكريّة ومدنيّة سورية، بل وعلى مواقع روسية أيضاً في مناطق الساحل السوريّ، وسط معلومات عن مشاركة "خبراء أوكران" في التخطيط لهذا الهجوم. وكانت الطائرات الحربية التركية بالتوازي، تشنّ هجومات على مواقع كردية خلف الحدود العراقية، وفي جبال "قنديل" (كردستان العراق)، بينما كانت طائرات الجيش التركيّ المسيّرة، تستهدف عدداً من المواقع والأهداف في محافظة الحسكة السوريّة. ولم تقم أنقرة بأيّ "إجراء ميداني" في المناطق التي تحتلّها في الشمال والشرق السوريّيْن، سوى "فكّ بعض محوّلات الكهرباء" في محافظة إدلب، ونقلها إلى الداخل التركيّ، وذلك بحسب مصادر أهلية في المنطقة.
وبالنظر إلى الواقع الميداني، وربطه بالتصريحات التركية الأخيرة الداعية إلى اللقاء والتطبيع وإصلاح العلاقات، يمكن ملاحظة وجود مسارين اثنين على هذا الصعيد، الأول هو استجابة القوى السياسية السورية الموجودة في الشمال، والمرتبطة بشكل كامل بالقرار التركيّ، وعلى رأسها ما يسمّى بـ "الحكومة السورية المؤقّتة" و"الجيش الوطنيّ"، وتماهيها مع التصريحات التركيّة، خصوصاً لجهة ما صدر عن عبد الرحمن مصطفى "رئيس الحكومة المؤقّتة"، الذي اعتبر أنّ "التقارب التركي – السوريّ" هو "خطوة مهمة نحو حلّ سياسيّ للأزمة السورية"، لافتاً إلى أنّ عملية التقارب هذه "لن تسفر عن نتائج تخالف تطلّعات الشعب السوريّ"، وأنّ تركيا تتصرّف "بما يتماشى مع توقّعات الشعب السوريّ".
وأيضاً، قيام كتائب ما يسمّى بـ "الجيش الوطني" وشرطته العسكرية، باعتقال كلّ من احتجّ أو تظاهر ضد التصريحات التركية حول ضرورة التقارب مع دمشق، وتسليمهم إلى الأجهزة الأمنية التركية.
ومن جهة مقابلة، تتصرّف بعض الفصائل الإرهابية المسلّحة التي لا يمكن أنْ يخرج قرارها عن الإرادة التركية، وكأنّ شيئاً لم يصدر عن أنقرة حول ضرورة هذا التقارب أبداً، فهي لم توقف اعتداءاتها على المواقع والبلدات السورية مطلقاً، بل إنّها صعّدت هذه الاعتداءات مؤخّراً، وتحديداً في ريف اللاذقية الشماليّ، والغريب أنّ هذا التصعيد قد حدث بالتزامن مع تصريحات إردوغان الأخيرة، ما أدى بدوره إلى زيادة وتيرة عمليات الجيش العربي السوريّ، وتصعيد الطيرانين السوري والروسيّ طلعاتهما الجوية واستهداف مواقع تلك التنظيمات في ريفيّ إدلب واللاذقية.
ولم تصدر أي تصريحات تركيّة في هذا الخصوص، وبالتالي لا وجود لأوامر تركية تقضي بوقف الاعتداءات على الأراضي السورية تماشياً مع "الجوّ الجديد" الذي تُعلن عنه أنقرة من خلال التصريحات المتلاحقة فقط. وأدنى ما يدلّ عليه هذا الوضع، هو إمّا أنّ النظام التركيّ لا يريد وضع كل أوراقه على الطاولة، ومنها فرض حالة من الهدوء واستتباب الأمن كبادرة حسن نيّة حول جدّيته في هذا المسار، أو أنّ لأنقرة خططاً أخرى ليس بينها التخلّي عن هذه الفصائل والجماعات أو كبح جماحها، بل محاولة فرض بقائها على الحدود كأمرٍ واقع يجب التعايش معه، وبالتالي بقاء النفوذ التركيّ قائماً، سياسيّاً وعسكريّاً واجتماعيّاً، على تلك المناطق، وبقاء تلك "الجُزر العسكرية" قائمة تُهدّد المدن والبلدات السورية الساحلية خصوصاً والداخلية، واستمرار انشغال الجيش العربي السوريّ بالقتال معها.
وهذا لا يتماشى واقعياً مع أيّ نيّة للسلام والمصالحة، وبالطبع لا يستجيب لأيّ مطلب سوريّ بوقف دعم الإرهاب داخل الأراضي السوريّة. وهذا كلّه، يكشف عن مغزى البيانات والتصريحات السورية الأخيرة المتعلقة بهذا المسار، ويوضح، ميدانيّاً وبالنار، معنى إصرار سوريا على العمل من خلال الأفعال والضمانات المكتوبة والواضحة، وعدم تعويلها على الكلام السياسيّ المعسول الذي لا ترجمة واقعية له على الأرض حتى اللحظة.
من المتوقّع أنْ تشهد العاصمة العراقية، بغداد، اجتماعاً بين مسؤولين سوريين وأتراك، في أقرب وقت ممكن، لكنّ توقّع صدور نتائج كبيرة وفارقة عن اجتماع كهذا، يبقى بعيد المنال عمليّاً، ولعلّ الأجدى أنْ نتمعّن جيّداً في كلام الرئيس الأسد وبيان الخارجية السورية، قبل أنْ ننتظر تطوّراً كبيراً على هذا الصعيد، فالواضح أنّ دمشق لم تجد لدى أنقرة بعد، ما يدفعها إلى التفاؤل.