بين "آيات شيطانيّة" وشيطَنة "آيات الله"!
إنّ المسألة الفقهيّة المرتبطة بحكم المرتدّ في الإسلام وعلاقتها بمسألة الحرّيات، هي واحدة من المسائل التي تداعت إلى الذهن.
يطرح الحدث الذي حصل في نيويورك الأميركيّة، والذي تعرّض فيه مؤلّف كتاب "آيات شيطانيّة" للطَّعن على يد شابّ يحمل الجنسيّة الأميركية، مستويات عدّة للبحث، ولن يكون من السهل تناول كلّ ذلك في مقالة، ولذلك اقتضى تيسيرُ الأمر التطرّقَ إلى عددٍ من النقاط:
أوّلاً: أعاد الحدث إلى الواجهة الحكمَ الصّادر من الإمام الخميني عام 1989، وهذا الأمر طبيعي في تداعي الارتباطات الذهنيّة. إلّا أنّ الأمر يطرح أكثر من علامة استفهام واستغراب أمام الارتجال في الربط بين الأمرين، بعد مرور أكثر من 30 عاماً على الحكم أو الفتوى.
كانت تلك الفترة، ما خلا البدايات، تشهدُ غياباً شبه تامّ للفتوى من التداول، إضافة إلى غياب للكاتب نفسه، ليتصدّر المشهد فجأة شابٌّ لا ينتمي عُمريّاً إلى زمان الفتوى، ولا إلى سياقاتها التاريخية وانعكاساتها على نفوس المُوالين للإمام الخميني آنذاك.
طبعاً، كلُّ ذلك بمعزلٍ عن ضرورة متابعة ما يؤولُ إليه التحقيق النزيه في تأكيد هويّة المرتكب، والارتكاب والدوافع والتفاصيل المرتبطة بكلّ ذلك.
ثانياً: طرح الحدث واستعادته الذهنية للفتوى عدّة ارتباطات ذهنيّة أيضاً؛ لكون المشتبه به من أصل لبناني أو لجهة كون الفتوى إيرانيّة، أو لجهة التوقيت والمكان، إضافة إلى الملفّات المفتوحة بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران ولبنان والمنطقة عموماً؛ فهذه مسألة لا يمكن استبعادُها في تفسير ما جرى، والدخول في حمأة التعليق، فضلاً عن التموضُع المؤيّد والمعارض من دون الوقوف عند تفاصيل كلّ ذلك وغيره، مسألةٌ بالغةُ السذاجة.
ثالثاً: ما يطرحُ ضرورة التأنّي أيضاً هو أنّ الجهة الحامية للكاتب، والراعية للمشتبه به (كونه يحمل جنسيّتها) ذات سوابق مسرحيّة من خلال خلق منصّات (platforms) وهميّة، تُمارسُ فيها التمثيل والكذب لتبرير حروب طاحنة، تصل إلى مستوى احتلال بلدٍ كالعراق، وهو الذي بني على كذبة امتلاك النظام العراقي لأسلحة دمارٍ شامل، وذهنيّة "هوليوود السياسة" ليست غائبة عن كثيرٍ ممّا يجري في العالَم!
رابعاً: من الواضح أنّ الملفّات الحارّة في المنطقة، ولدى الأطراف التي تعاملت مع الحدث من خلال منطق تسجيل النقاط، جعلت الموضوع السياسي هو الأكثر بروزاً إلى الواجهة، ولذلك دخل الموضوع في حركة الاستثمار السياسي، ولا سيما على مواقع التواصل الاجتماعي المتأثّر غالباً بالمنحى العاطفي للأمور.
إنّ المسألة الفقهيّة المرتبطة بحكم المرتدّ في الإسلام وعلاقتها بمسألة الحرّيات، هي واحدة من المسائل التي تداعت إلى الذهن، لكنّها – بشيء من التأمّل -الأقلّ تأثيراً في المسألة – على فرض دخولها أصلاً -، لا لكون المسافة الزمنيّة بين صدور الفتوى والحدث طويلة نسبياً (33 سنة)، بل لأنّ كثيراً من التغيّر لحق بالذهنيّة العامّة التي تطبع العصر تجاه الحرّيات بشكل عامّ، وهذه الذهنيّة أثّرت حتّى على المجال الديني بشكل ضاغطٍ يصعبُ المجاهرة به ضدّياً.
ولذلك، وجدنا أنّ الأحداث المسيئة إلى الإسلام ومقدّساته التي ظهرت لاحقاً، لم تكن تواجَه في خطاب كثير من الحركات والمرجعيّات الإسلاميّة بالدعوة إلى القتل والعنف، بل تقتصر على الاستنكار والإدانة وتسجيل اعتراض على الخلط بين حرّية التعبير والإساءة إلى الأديان، وما إلى ذلك.
بل قد نجد أنّ مسألة متابعة تنفيذ الحكم أو الفتوى الصادرة من الإمام الخميني لم تعد بحرارتها الأولى لدى الجهة المعنيّة نفسها، أي الجمهوريّة الإسلامية الإيرانية منذ أواخر التسعينيات، ما يُشير أيضاً إلى أنّ للمسألة بُعدها السياسي في حركة الصّراع بين الجمهوريّة الإسلاميّة والغرب عموماً، والذي لا يزال سارياً إلى الآن.
إنّ مطالعتنا لبعض البيانات التي تذكّر بالفتوى التاريخية تعاملت معها كأساس للإشارة إلى ضرورة اتحاد المسلمين، واتخاذها عبرةً لتأكيد الشعور بالعزّة الإسلاميّة، من دون إشارة إلى العمل على متابعة تنفيذها؛ ما يشي بأنّ المسألة دخلت في بُعدٍ ثقافيّ لا سياسي إجرائي([1]).
يبقى أن نُشير إلى أنّ مناخ الحرّية الفكريّة لم يكن بعيداً عن النقاش الجاري داخل المؤسّسات البحثيّة الدينية (الحوزات العلميّة)، وكانت هناك مقالات وبحوث تصدر بين وقتٍ وآخر تناقشُ فيها حدّ الردّة، انطلاقاً من قراءة داخليّة للنصوص التأسيسيّة على قاعدة انفتاح باب الاجتهاد في الفقه وأصوله.
وهذا الجهد العلمي مطلوبٌ لذاته، وليس خاضعاً لمنطق تكييف الشريعة للمنحى الحقوقي الغربي، الذي يسعى فيه كثيرون، اليوم وسابقاً، إلى التعامل مع الشريعة الإسلامية على طريقة المراسيم الرئاسيّة أو الملكية، التي تُخضع الشريعة لمتطلّبات السياسة والاقتصاد ورغبات المنظمات الدولية وما إلى ذلك.
لسنا هنا مثاليّين بالمطلق لنقول إنّ طبيعة حركة الفكر السائد عالمياً في مسألة الحرّيات لا تمارسُ تأثيراً على الفكر أو الشريعة الإسلاميّين، ولكنّ هناك فرقاً بين أن يثير الفكر الآخر لديك أسئلة وإشكاليّات يفرضها على أفكارك، وبين أن تخضع لفكر الآخر لتبرّر تبنّيك له من خارج نموذجك ومنهجك الفكري. الأوّل يجعلك تعود إلى منظومتك لتبحث، والثاني يجعلك تفرض على منظومتك إسقاطات من خارج؛ وشتانَ ما بين هذا وذاك!
لكن، مع كلّ هذا المسار الاجتهادي الطبيعي، فإنّ ذلك لا يعني الخلط بين حرّية التعبير وازدراء الأديان والإساءة إلى المقدّسات؛ فإنّ الأوّل ناتجٌ عن حرّية تفكيرٍ جادّ يجعل للإنسان الحقّ في تبنّي رأي ومخالفة آخرين؛ وهذا الأمر قد سجّله القرآنُ الكريم عندما ناقشَ الأفكار المطروحة في سياق الحوار مع الكافرين والمشركين وغيرهم، حتّى فيما يخصُّ الوحيَ وشخصَ النّبي (ص) وسلامة شخصيّته.
أمّا الثاني، وهو الازدراء والتوهين واستخدام ما يُشبه السبّ والشّتم، فهو اعتداءٌ موصوفٌ على الجماعات الدينية، باعتبار أنّ لكلّ أمّة مقدّساتها التي تعدّ الاعتداء عليها اعتداءً على ذاتها، وهو ما سجّل فيه القرآنُ الكريم تجاهه قاعدة أخلاقيّة حضاريّة في قوله تعالى: (ولا تسبّوا الّذين يدعونَ من دونِ اللهِ فيسبّوا الله عدواً بغير علمٍ كذلك زيّنّا لكلّ أمّة عملهم)[2].
وفي الوقت ذاته، نستطيع أن نسجّل نقطة على ازدواجيّة المعايير التي يتحرّك بها المنطق السائد والمسيطر عالمياً، إذ نجد في الحرية الفكرية صيفاً وشتاءً على صعيد واحد، بل قد يجد المرء أحياناً أنّ الغرب يمارس "حدّ الردّة" الذي ينتقِدُه بأكثر من شكلٍ وطريقة وبقفّازات "حضاريّة"!
خامساً: تأكيداً على تشعّب القضيّة إلى ما هو أبعد من مسألة الارتداد والحكم الفقهي المرتبط بها، وبالعودة إلى سياقات تاريخية لمواقف واكبت الحكم أو الفتوى، قد نجد أنّ هناك مستويين من المقاربة برزا مع الفتوى:
الأوّل له علاقة بإدارة حركة الصّراع في مواجهة صعود الحركات الإسلامية، ولا سيما بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني، وبعد ثماني سنوات من الحرب العراقية – المدعومة عالمياً – لإسقاطها.
من اللافت هنا تاريخياً أنّ الحرب انتهت في آب/أغسطس 1988، في حين أثيرت مسألة كتاب "آيات شيطانيّة" بعدها بأشهر (فتوى الإمام الخميني صدرت في شباط/فبراير 1989)، ما عدّ آنذاك حملة غير بريئة على الإسلام، وهو ما بدا جليّاً في خطابٍ للسيد محمد حسين فضل الله (ره) داعماً فيه لفتوى الإمام الخميني في حينها يقول فيه: "لقد أفتى الإمام بإعدامه باعتبار كونه مرتداً، ومن المُفسدين في الأرض، ولكونه يسبُّ رسول الله، وباعتبار كونه يمثّل واجهة من واجهات الكافرين، وباعتبار كونه يمثّل خلفيّة استعماريّة لإثارة الجوّ ضدّ الإسلام والمسلمين"، مضيفاً: "أمّا أن يُقال: إنّ المرتدّين كثيرون، فلماذا اخترتُم هذا الشّخص؟ فلأنّه جاء محمّلًا بكلّ الخطط الاستعماريّة الغربيّة ضدّ الإسلام، وإلا ما معنى موقف الدّول الغربيّة كلّها منه؟!"([3]).
أما المستوى الثاني، ففرضته مواكبة تأثيرات الفتوى أو الحكم في أرض الواقع، كجزءٍ من عمليّة قيادة الموقف الإسلامي في مرحلة ما بعد رحيل صاحب الفتوى، وبروز تعقيدات ومتغيّرات كثيرة في المسرح العالمي، وهنا يؤكّد السيد فضل الله موقفه المبدئي بالتفريق بين الحوار الفكري وبين ما يُشبه "السباب والاحتقار والتشويه وما إلى ذلك ممّا لا يدخل في عالم الحرّيات في العالَم"([4]).
ويرى بأنّ الفتوى استُغلّت عالمياً لمصلحة كتاب "آيات شيطانيّة"، فقد لاحظ أنّه "بدلاً من أن تكون الفتوى وسيلة من وسائل إسقاط الكتاب، أصبحت وسيلة من وسائل امتداده" إذ تمّت ترجمة الكتاب المذكور حتّى إلى لغاتٍ عاديّة! "لأنّ الواقع المعاصر الذي نعيشه يدعم أيّ موقف مضادّ [لتقييد] عملية حرّية الفكر، ولا سيّما إذا كانت القضية تتّصل بالإسلام كنتيجة للخلفيات التاريخية السلبية ضدّ الإسلام".
هذا الأمر، طرح لدى السيّد فضل الله نقداً للمسار الذي سارت فيه الأمور لاحقاً، سواء من جهة بعض الهيئات المتحمّسة التي جعلت لتنفيذ الفتوى جائزةً ماليّة، أو من جهة الظرف العالمي في النّظر إلى مثل هذه القضايا، معتبراً "أنّ هذه المسألة كان يجبُ أن يُسدلَ عليها السّتار"، باعتبار أنّ "اضطهاد الفكر يقوّيه، بينما إهمال الفكر يجعله أمراً عاديّاً"[5]، إذ إنّ الهدف هو ضربُ الباطل ومنعُ انتشاره، وهي مسألة متحرّكة مع الظروف، علماً أنّه ليس ضرورياً في ذلك أن يكون الناتج فكراً حقيقةً؛ فإنّ الدعاية الغربية القويّة قادرة على تصوير المواقف ضدّها على أنّها اضطهادٌ للفكر! وليست مواجهة لاعتداءٍ سافر، وهجومٍ بذيء!
إنّ الموضوع برمّته هنا يرتبط بأدوات المعركة، إذ ما من شكّ أنّ الحرب الثقافية، التي تتّخذ من حرّية التعبير والفكر وسيلة لها، هي جزء من الحروب السياسية والأمنية التي تستهدف ضرب الجبهات المضادّة من الداخل، ولا يمكن التعاطي معها بمنطق الدّفاع عن أصحابها باسم تمجيد حرّية الفكر، لكن لا بدّ من التأكيد على أنّ أسلوب المواجهة يجب ألا يؤدّي إلى نتيجة عكسية، بل أن يَسحَبَ من العدوّ أوراق قوّته، وهو أمرٌ يختلفُ باختلاف الزمان والمكان وظروفهما.
سادساً: إنّ مثل هذه القضايا يجبُ مقاربتُها بمنطق الحكمة البالغة، والتي ترصد كثيراً من المتغيّرات ولا تنطلق بالعاطفة والانفعال؛ لأنّ بعض المواقف قد يكون لها دورٌ في مرحلة زمنيّة نتيجة طبيعة الظروف الموضوعية حينها، وقد يكون لها دورٌ عكسيٌّ في مرحلة أخرى بسبب تبدّل الظروف، ما يجعل القضيّة مرتبطة بحركة الأسلوب في تحقيق الهدف، وليس باعتبار الأسلوب هدفاً في حدّ ذاته.
ولذلك، ليس هناك ما يمنع من أن تغيّر الجمهوريّة الإسلامية نفسُها منطقَها في التعاطي مع قضيّة من هذا النوع إذا تبدّلت المصلحة العُليا، ولا يعدُّ ذلك تنكّراً لفتوى مؤسّسها، ولا انقلاباً على أعقاب الموقف الإسلامي؛ فإنّ كلَّ شيءٍ يُقاس بحسابه، وكلّ قضيّة تفرض منطقها ضمن ظروف الواقع ومتغيّراته في حركة الصّراع في العالم.
سابعاً: عندما تكون المعركة ثقافية، ويُراد استثمارها في شيطنة الدّين أو علمائه، فإنّ على المستهدَف أن لا يأخذه الحماسُ نتيجة الحدث، وينزلق إلى ملاعب يُعدّها أو يستثمرها من أتقنوا صُنع المنصّات المسرحيّة وتسويقها، ولا سيّما لجهة اتخاذ الخطاب الديني منطقاً انعزالياً، وجعل كلّ المنتقدين في جبهة أو سلّة واحدة، إذ لا يُمكن للخطاب الدّيني أن يُعدَم الحواريّة في صوغِ رؤاه، حتّى في أشدّ حالات المعركة الثقافيّة أو السياسيّة أو الأمنيّة حرارة وتجنّياً؛ لأنّ مساحة الخطاب الديني هي حكماً مخاطبة التنوّع العَرْضيّ – في مساحة الحاضر – والطّوليّ – في مساحة المستقبل -، وهو ما عكسه القرآن الكريم حتّى في أشدّ الحالات تصعيداً في الخطاب – كما في سورة التوبة أو براءة مثلاً -، أو كما يلوحُ من كثيرٍ من الأحاديث عن النّبي (ص) وأهل بيته الطاهرين (ع)؛ فليُراجَع.
أخيراً: قد نلاحظ هنا أنّ كثيراً من الخطاب المتعلّق بقضايا الصّراع الكُبرى يشتغلُ وفق منطق اللحظة والظرف والأثر الموضعي، ولا يجوز التعاطي معه دائماً بذهنيّة القضيّة الثابتة على طول الخطّ، ولا الخلط بين مستوى أو سياقٍ وآخر.
ولذلك، لا يستطيع شخصٌ الآن التصويب على فتوى الإمام الخميني في حينها، والتي كانت ضمن ظرفها تؤدّي دوراً أساسيّاً في حركة الصراع العالمي ضدّ الإسلام، ولا سيّما في أثناء صعوده الحركي الذي حرّك الغرب المستكبر في اتّجاه العمل لضرب خطرٍ قادمٍ من داخله بعدما لم يستطع ضربه من خارجه (الحرب).
وفي الوقت نفسه، قد نجد من السذاجة الحماسة لاعتبار أنّ طعن صاحب الكتاب المشؤوم كان استجابةً آليّة لتلك الفتوى؛ فإنّ للمسألة التاريخية منطقها المعقّد والمتشعّب في فرض نتائجها على أرض الواقع، ولا تشتغل وفق منطق العامل الواحد.
هذا المنطق التاريخي، قد يجعل العاملَ الأكثرَ تداعياً إلى الذهن – وهو الفتوى – هو في الواقع العامل الأضعف تأثيراً في تحقيق النتيجة/ الحدث، وهنا يبدو أنّ علينا الدخول بعمقٍ إلى ما يقفُ خلف ستائر كثيرة، منها ستائر الإدارة الحامية والراعية نفسها، أعني الولايات المتحدة الأميركية، وكل سياساتها تجاه المسلمين، ما قبل "آيات شيطانية" وما بعدها حتّى زماننا الحاضر!
مصادر:
[1] راجع على سبيل المثال البيان الصادر في العام 2020 عن مجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية
[2] سورة الأنعام، الآية 108.
[3] من خطبة الجمعة بتاريخ 24-2-1989 في مسجد الإمام الرضا (ع) في بئر العبد – الضاحية الجنوبية لبيروت.
[4] عن سنوات ومواقف وشخصيات؛ هكذا تحدث.. هكذا قال، حوار منى سكرية، ص165.
[5] عن سنوات ومواقف وشخصيات، ص165.