بوريس جونسون.. الديكتاتور المطرود من "الداونينغ ستريت" لعدم استقامته
يتشابك الكثير من الأسباب والمصالح التي أدت إلى إقصاء بوريس جونسون عن السلطة في "داونينغ ستريت"، من فضائحه الأخلاقية أو السلوكية، إلى طريقة تعامله مع ملفات اقتصادية حساسة في بريطانيا.
لم يتوقع أحد هذا السقوط المذلّ لرئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون، الذي تُوِج ملكاً على عرش "الداونينغ ستريت"، استناداً إلى تفويض شعبي ناله في الانتخابات العامة عام 2019. سقط بعد عامين ونيف من وصوله إلى السلطة، رغم خططه للبقاء في رئاسة الوزراء لولاية ثالثة، فالمملكة المتحدة لم تعرف رئيساً للوزراء أساء استخدام السلطة كما فعل.
ترك خريج جامعة أوكسفورد خلفه إرثاً سياسياً يتسم بالفوضى وعدم الكفاءة والسمعة السيئة، فضلاً عن تراجع اقتصادي واتفاق "بريكست" غير مكتمل وجبهة مشتعلة مع روسيا وتوتر في العلاقة مع الجار الأوروبي، كما أشعل حرباً أهلية بين أجنحة حزب المحافظين.
نجا جونسون من محاولة إطاحته، ولا سيما تصويت حجب الثقة عنه في حزيران/يونيو الماضي، إثر نشر سوي غراي، موظفة الخدمة المدنية، تقريرها بشأن فضيحة مخالفته قواعد كورونا الصحية المعروفة باسم فضيحة "البارتيغيت"، لكن سوء إدارته الفضيحة الجنسية المرتبطة بنائب مسؤول الانضباط الحزبي كريس بانشر كانت ربما القشة التي قصمت ظهر البعير. هذه الفضيحة حوّلت جونسون إلى عبء على حزبه، فأسقطه بذريعة قلة نزاهته وسوء إدارته خلال الأزمات.
إذاً، محور انقلاب المحافظين على زعيمهم كان دافعه أخلاقياً، لكن العارف بمسيرة عمدة لندن السابق يدرك أنَّ فضائحه ليست طارئة، فقد رافقته منذ أن كان صحافياً في صحيفة "ذا تايمز أوف لندن"، إذ طرد بسبب اختلاقه اقتباساً.
لا شكّ في أنَّ بوريس جونسون يملك مواهب، لكن يعيبه غياب الضمير والمبدأ، كما يقول المؤرخ ماكس هاستينغر، الرئيس السابق لجونسون في صحيفة "ذا ديلي تليغراف".
ليّ ذراع جونسون وإقصاؤه من السلطة
الرحيل بشرف أو الطرد. رسالةٌ حملها رئيس لجنة 1922 البرلمانية، غراهام برايدي، صباح يوم السابع من تموز/يوليو موفداً من الوزراء والنواب المحافظين لجونسون. اختار الأخير حفظ ماء وجهه والرحيل بهدوء، وإن كان قد سجّل على نفسه أنه شغل أقصر مدة يقضيها رئيس وزراء في "الداونينغ ستريت"، رغم قيادته حزبه الحاصل على الأغلبية البرلمانية.
البعض رأى أن بقاءه في منصبه للفترة الانتقالية لحين اختيار زعيم جديد يهدف إلى إقامة حفل زفاف له في قصر "تشيكرز"، المقر الصيفي لرئاسة الوزراء البريطانية، والبعض الآخر رأى أنه يريد الانتقام ممن غدر به، ولا سيما وزيرا الخزانة والصحة.
قيادة بوريس جونسون للفترة الانتقالية لم تعجب البعض، فرئيس الوزراء الأسبق جون مايجور كتب رسالة عاجلة إلى اللجنة البرلمانية في حزب المحافظين يطالبها بإجباره على الرحيل الفوري، لأنَّ جونسون، في رأيه، دمر اقتصاد البلاد وصورة بريطانيا في العالم، فضلاً عن تخريبه عمل البرلمان البريطاني.
لقد سادت خشية لدى النخبة الحاكمة بعد رفضه الاستقالة من تكرار تجربة دونالد ترامب الأميركية، بأن يستولي جونسون على السلطة بذريعة تفويض 14 مليون ناخب له في الانتخابات العامة. وقد زاد من شكوك المراقبين في عدم تخلّي جونسون عن السلطة تعداده في خطاب الوداع أمام مقر إقامته في لندن إنجازاته السياسية وإشارته إلى أنَّه لا يمكن الاستغناء عنه سياسياً.
إنّ تجربة بوريس جونسون وأداءه في تلويث الحياة السياسية البريطانية بأكاذيبه ونرجسيته، بحسب تعبير مستشاره السابق دومينيك كامنغز، زادت أعداءه، فضلاً عن تنصّل الكثير من حلفائه من علاقتهم به.
بات بوريس جونسون عاراً على حزب المحافظين، فتمت محاصرته باستقالات جماعية لأكثر من 50 برلمانياً ومسؤولاً حكومياً بسبب الأخطاء الجسيمة التي شابت فترة حكمه، ولا سيما تعاليه على الأعراف الدستورية والقوانين الدولية، فزعيم حزب المحافظين الحاكم أراد أن يسنّ قانوناً يخالف اتفاقية "بريكست" الدولية، بعدما فشل في مفاوضاته مع بروكسل بشأن إيرلندا الشمالية. وفي عهده أيضاً، تم تمرير قوانين تحدّ من الحريات وحقوق الإنسان، من خلال ترحيل اللاجئين إلى رواندا والتهديد بإعادة بريطانيين إلى موطنهم الأصلي بذريعة الإرهاب.
أخلاق جونسون واستقامته أو الحاجة إلى قيادة جديدة؟
كان لافتاً سؤال أحد الصحافيين للوزيرة ندين دوريس أثناء خروجها من مقر رئاسة الوزراء عن عدد الأولاد الذين أنجبهم بوريس جونسون من زواجه وعلاقاته غير الشرعية. يرفض رئيس الوزراء المستقيل الإجابة دائماً عن عدد الأطفال الذين أنجبهم، وإن كانت بعض الأوساط الصحافية تتحدث عن 8 أطفال.
وكان القضاء البريطاني قرر عام 2013 أن من حق الناس معرفة أن عمدة لندن السابق، بوريس جونسون، كانت لديه علاقة زنا وخيانة مع العاملة في مجال الفن هيلين كاكينتير، نتجت منها ولادة طفل غير شرعي.
لقد تحول ديكتاتور الدوانينغ ستريت إلى أضحوكة سياسية، بفعل كذبه المتكرر واعتذاره بعد فوات الأوان. تَسلُط الصحافة والخصوم السياسيين على حياته الشخصية لم يكونا السبب في النقمة عليه، لكن الرأي العام بدأ يستنتج أن من لا يمكنه رعاية أبنائه والتحكم في مشاعره لا يمكنه أن يؤتمن على قيادة بلاد الضباب.
فضائح جونسون لا تعد ولا تحصى، فقد سجل على نفسه أنه أول رئيس وزراء تفرض عليه الشرطة البريطانية غرامة 50 جنيهاً لمخالفته قواعد كورونا الصحية، وهو من اتهم بتضليل الملكة إليزابيث الثانية عندما رفضت المحكمة العليا طلبه تعليق عمل البرلمان 5 أسابيع حتى يتم التصديق على اتفاقية "بريكست".
ولم تشفع الزيارات المتكررة لجونسون إلى كييف، ولا الاتصالات شبه اليومية بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، أو حتى السخاء الإنكليزي لإشعال نار الفتنة والحرب في أوكرانيا، في التخفيف من حدة النقمة الشعبية؛ هذه النقمة التي وجدت في جونسون وأهوائه لقمة سائغة لإسقاطه.
هذه النقمة التي أسقطت جونسون لم تكن وليدة اللحظة أو وليدة ولاية جونسون فقط، فهي تعود إلى سنوات مضت، نتيجة سياسات حزب المحافظين التقشفية. كما أنَّ أغلب المتنافسين على زعامة حزب المحافظين لا يخالفون كثيراً سياسات جونسون، سواء في "البريكست" أو فيما يخص الحرب في أوكرانيا أو غيرها، لكن المرحلة التي يقودها انتهت صلاحيتها، وبات الأمر يتطلب قائداً آخر لقيادة مرحلة ما بعد "البريكست"، فضلاً عن التخفيف من حدة الأزمة المعيشية.
إنَّ المصيدة الحقيقة التي وقع بها جونسون ليست استقامته، بل موافقته على رفع ضريبة الدخل على المواطنين، وهي مصيدة أعطت حظوظاً للمتبارزين في حزبه. ستيف باكير، أحد المرشحين لخلافة جونسون، والذي يعدّ من صقور "بريكست"، قالها صراحة: "إن مهمة جونسون انتهت بعدما تخلص من زعيم المعارضة السابق جيرمي كوربن وأنجز مسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي".
إذاً، انتهت صلاحية جونسون أو ربما من الصحيح أن نقول: انتهت المرحلة الأولى من "بريكست"، وأصبحت بريطانيا بحاجة إلى رجل للمرحلة الثانية يعالج الأزمة الاقتصادية وتداعيات الحرب الأوكرانية.