بوتين منشغل في أوكرانيا وعَينا بايدن على الغاز والبترول!
أميركا وحليفاتها في أوروبا ستضع من دون شك كل هذه المعطيات وهي تخطط لتضييق الحصار على روسيا.
بعد أن نجح الثنائي عبد الله الحميد الدبيبة ومحمد المنفي في عرقلة إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الليبية التي كانت مقررة في الـ 24 من كانون الأول/ ديسمبر الماضي، دخلت الدول الغربية والإقليمية على الخط لمنع الانهيار الأمني في البلاد من جديد. فقد هدّد الدبيبة أكثر من مرة بأنه "لن يسلّم السلطة إلا لحكومة منتخبة من الشعب، بعد صياغة دستور جديد للبلاد، واستفتاء الشعب فيه قبل الانتخابات".
وجاءت المصالحة بين أنقرة وبين أبو ظبي، المعروف عنها تضامنها مع القاهرة، لتساعد الأطراف الليبيين على السعي من أجل صيغ جديدة لحل الأزمة السياسية، قبل أن تعود بالبلاد إلى دوامة الاشتباكات المسلحة بين كل الأطراف. كما جاء اتفاق المشير خليفة حفتر مع وزير الداخلية السابق فتحي باش آغا ليخلق توازناً جديداً، لأن باش آغا كان محسوباً على أنقرة، كونه من أصول عثمانية كما يُقال في تركيا. فتحالف حفتر مع عدو أنقرة باش آغا، وهو حليف إردوغان "السابق"، دفع البرلمان إلى اختياره رئيساً للحكومة الجديدة في الأول من آذار/ مارس الحالي، ومن دون أن يحالف الحظ باش آغا للسفر إلى طرابلس (الوساطات مستمرة) وتسلّم السلطة، بعد أن هدّد العديد من الفصائل المسلحة الموالية لدبيبة بمنعه من دخول العاصمة، وهو بدوره مدعوم من فصائل مسلحة قوية، سواء كانت داخل طرابلس أم في مصراتة مسقط رأسه، ويُوليها إردوغان أهمية خاصة في علاقاته بليبيا، لأن معظم سكانها من أصول عثمانية كما يُقال.
ولعب باش آغا عندما كان وزيراً للداخلية في حكومة فايز السراج دوراً مهماً في التوقيع على اتفاقيات التعاون العسكري بين أنقرة وطرابلس في الـ 27 من تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، وشاركت قوات حكومة الوفاق في فك الحصار عن طرابلس والسيطرة على مدن عديدة في الغرب بدعم من الجيش التركي. كما حققت أنقرة تفوّقاً سياسياً ونفسياً في المنطقة، بعد أن وقّعت مع طرابلس على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا، لتهدّد بعدها اليونان ومن معها بعدم السماح لأنابيب الغاز بالمرور من هذه المناطق وهي في طريقها من "إسرائيل" ثم قبرص فاليونان إلى إيطاليا. وأثبت ذلك أن الهم الأكبر بالنسبةِ إلى أنقرة وكل من هو مهتم بالأزمة الليبية، هو الغاز والبترول الليبيين اللذين اكتسبا الآن أهمية إضافية بعد قرار القمة الأوروبية الأخيرة البحث عن بدائل للغاز والبترول الروسيين قبل 2027.
ويبدو واضحاً أن الغاز (1.5 تريليون متر مكعب) والبترول (50 مليار برميل) الليبيين، وهما على بُعد 500 كلم فقط عن إيطاليا، يفتحان شهية الغرب الذي بات واضحاً أنه يسعى إلى حل الأزمة الليبية بعيداً عن التأثير الروسيّ. ويتطلّب ذلك إقامة نظام مدعوم منه، وبالتالي إقناع تركيا بسحب قواتها من هناك، حتى يتسنّى للعواصم الغربية الضغط على موسكو لسحب مسلحي مجموعة "واغنر" الروسية التي تتعاون مع قوات حفتر. ويأتي كل ذلك مع الغموض المحتمل على واقع التوازنات الجديدة، بعد مصالحة حفتر مع باش آغا، ويُقال إن الإمارات باتت تدعمه، وهي الحال بالنسبة إلى مصر، العدو الأهم بالنسبة إلى الرئيس إردوغان في ليبيا والشمال الأفريقي عموماً، بعد سقوط الإخوان المسلمين في مصر وتونس والسودان وأخيراً المغرب.
ودفع ذلك الرئيس إردوغان إلى تطوير العلاقة مع الدولتين الأخيرتين، ناسياً تحالفاته السابقة مع الإخواني عمر البشير ومع إخوان المغرب، حزب العدالة والتنمية المغربي. واستضاف إردوغان خلال الفترة الماضية عبد الفتاح البرهان في أنقرة مرتين، وقيل إنه باع طائراته المسيّرة للمغرب لاستخدامها في الصحراء الغربية، مع التذكير بأن الخرطوم والرباط هما حليفتا "إسرائيل" الجديدتان.
أميركا وحليفاتها في أوروبا ستضع من دون شك كل هذه المعطيات وهي تخطط لتضييق الحصار على روسيا، مع احتمالات أن تستمر الحرب طويلاً، ليكون الغاز والبترول الروسيان هدف هذه العواصم التي تبحث عن بدائل عاجلة لها وبأسرع ما يمكن. وهو ما سيجعل من الجزائر أيضاً هدف هذه العواصم التي ستسعى لكسبها إلى جانبها، ما دامت تملك نحو 160 تريليون قدم مكعب من الغاز، ونحو 15 مليار برميل من البترول، وشواطئها تبعد عن إسبانيا 160 كلم فقط، ومن دون أن تهمل العواصم الغربية العديد من المشاريع الأخرى التي تهدف إلى نقل الغاز والبترول من السودان ونيجيريا وتشاد وموريتانيا، بل وحتى من مصر، إلى ليبيا والجزائر ومنها الى أوروبا بحراً.
وهذا ما يعيد إلى الأذهان مساعي تركيا لنقل الغاز القبرصي والإسرائيلي، بل وربما المصري، إلى ميناء جيهان التركي، ومنه إلى أوروبا. وهو الموضوع الذي بحثه الرئيس الإسرائيلي هرتسوغ مع إردوغان، خلال زيارته الأخيرة لأنقرة، والتي حظيت بمباركة الرئيس بايدن، الذي ناشد إردوغان المزيد من التنسيق والتعاون مع تل أبيب، عندما اتصل به إردوغان بعد يوم من زيارة هرتسوغ. وسبق للرئيس الإسرائيلي أن زار اليونان قبل أسبوعين من زيارة أنقرة، ليبحث هناك موضوع التعاون في موضوع الغاز، بعد أن أعلنت واشنطن أنها ليست متحمّسة لمدّ الأنابيب من "إسرائيل" وقبرص إلى اليونان ثم إيطاليا بحراً، في مسعى جديد من واشنطن لترتيب أوراق الغاز في المنطقة. ودفع ذلك رئيس الوزراء اليوناني، العدو التقليدي لأنقرة، إلى القيام بزيارة مفاجئة لاسطنبول (الأحد) ليبحث مع إردوغان المزيد من التفاصيل في هذا الموضوع، الذي سيكون ضمن مباحثات المستشار الألماني شولز الذي وصل أنقرة بشكل مفاجئ (الإثنين).
كل ذلك في الوقت الذي أعلن فيه الرئيس بايدن قطر حليفاً استراتيجياً لأميركا من خارج الحلف الأطلسي، في محاولة منه لضمان نقل الغاز القطري إلى أوروبا، براً كان أو بحراً. وهو ما أزعج الرياض وأبو ظبي (ما قِيل عن رفض محمد بن سلمان ومحمد بن زايد الرد على اتصال هاتفي من بايدن) طرفَي المسرحية الأميركية التي لم تهمل مساعي المصالحة مع فنزويلا وإيران، مع إغراءات مثيرة يعتقد بايدن أنها قد تكون كافية لإبعاد هاتين الدولتين عن موسكو، وبالتالي ضمان تلبيتهما لاحتياجات السوق الأوروبي من الغاز والبترول بعد الاتفاق النووي مع طهران، والإفراج عن أموالها المحتجزة (نحو 100 مليار دولار) ورفع الحصار عن كراكاس تماماً.
ومن دون أن يكون واضحاً هل، وكيف، سيردّ الرئيس بوتين على تكتيكات واشنطن وحليفاتها الأوروبية التي تسعى إلى كسب ودّ العواصم الإقليمية الغنية بالنفط والغاز، ولكنها تعاني الكثير من المشاكل التي يعتقد الغرب أنه يستطيع حلّها، وهو على حق لأنه السبب فيها.
وهذا هي الحال في ليبيا والسودان والعراق واليمن وعدد من الدول الأفريقية التي أقامت موسكو معها علاقات سياسية واقتصادية وعسكرية مميّزة، لتساعدها على مواجهة التهديدات الأميركية والأطلسية. وهو ما نجحت فيه بامتياز في سوريا، فأراد الغرب أن ينتقم لهزيمته فيها، ولكن في أوكرانيا، بعد أن جرّب حظّه في كازاخستان. وهو الآن يضع الخطط من أجل دول أخرى كانت في السابق حليفة استراتيجية لروسيا، ومنها من دون شك ليبيا وجاراتها، غرباً الجزائر وجنوباً السودان.
ويفسّر كل ذلك اهتمام واشنطن وحليفاتها، وخاصة ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، بليبيا، وحل أزمتها يحتاج إلى توافق إقليمي لن يكون تحقيقه صعباً ما دام الجميع "في الهوا سوا" مع "إسرائيل".
وفي هذه الحالة، ليس لبوتين أي خيار سوى النصر في أوكرانيا، وإلا، فالغرب لا ولن يتخلّى عن مؤامرته الخبيثة ضد روسيا، حتى يكون مصيرها كمصير الاتحاد السوفياتي.