بعيداً من الدعوات الشعبوية الحاقدة
"إسرائيل" لم تعد قادرة على أن تكون الوكيل الحصري لحماية المصالح الأميركية في الشرق الأوسط، فاحتواء "جنون نتنياهو" هو ما سيتم العمل عليه في الأيام المقبلة.
بدأت المرحلة الثانية من العدوان الصهيوني على قطاع غزة، وبدأت التكهنات تتزايد حول هذه المرحلة ومحاذيرها وتحدياتها واحتمالات توسعها إلى حرب إقليمية مفتوحة.
وقد تعالت أصوات شعبوية تنادي بضرورة "فتح الجبهات" والدخول في مواجهة مفتوحة مع "إسرائيل" والولايات المتحدة. تلك الدعوات لا تتعدى كونها حديثاً شعبوياً ليس الهدف منه تحرير فلسطين أو انتصار محور المقاومة، بل ينبع من حقد دفين وإرادة تخوين لهذا المحور وتضحياته.
استئناف القتال في قطاع غزة لم يكن حدثاً مفاجئاً ما دامت الأهداف التي وضعها كيان الاحتلال لنفسه لم تتحقق، ومن غير المعروف متى ستتحقق، وما إذا كان بإمكانه تحقيقها أصلاً.
رفع سقف الأهداف جعل تحقيق الانتصار مستحيلاً، وخصوصاً أن الكيان لا يملك رفاهية الوقت والخسائر الاقتصادية الكبيرة الناتجة من الحرب، إضافة إلى أهمية التبدل في الرأي العام الدولي لجهة الإدراك الحقيقي لطبيعة ما يجري في فلسطين وما ترتكبه "إسرائيل" من جرائم مروعة بحق شعب أعزل كان يعيش كرهينة في سجن كبير.
ولم يعد الأمر يقتصر على الرأي العام، بل انتقل إلى السياسيين والأحزاب، إذ شهدت وزارة الخارجية الأميركية عدة استقالات احتجاجاً على الدعم الأميركي المطلق لحكومة الاحتلال في حربها في غزة.
وكذلك حصل انقسام في الكونغرس الأميركي، بل وفي الحزب الديمقراطي نفسه، إذ برزت أصوات تنادي بضرورة وقف تلك الحرب الهمجية التي من المحتمل توسعها في أي لحظة. حينها، لن يستطيع أحد تصور ما سيحدث من نتائج كارثية على المنطقة والعالم.
ويبدو أن غريزة الانتقام ما زالت هي المحرك الأساسي لحكومة الحرب الإسرائيلية المتطرفة بقيادة بنيامين نتنياهو، مدفوعة بمزاج عام شعبي صهيوني متطرف ينادي بضرورة القضاء على حماس واستعادة استراتيجية الردع الصهيونية التي فقدت.
التصورات المطروحة
يجري الحديث عن عدة سيناريوهات متوقعة لما بعد الحرب على غزة. أكثر تلك السيناريوهات من غير الممكن تحقيقها من الناحية الواقعية، وخصوصاً أن "إسرائيل" لم تنتصر انتصاراً كاسحاً يمكنها من فرض شروطها وبقوة.
أول هذه السناريوهات وأكثرها سخافة هو الذي يتحدث عن ضرورة إخراج حركة حماس من غزة، ويطرح عدة أماكن أو دول مقترحة ليقيم أعضاء الحركة فيها، على غرار ما حدث عند خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان إلى تونس.
هذه المقاربة غير صحيحة، فمنظمة التحرير كانت حينها في استضافة بلد عربي، وانتقلت منه إلى ضيافة بلد عربي آخر، فيما تعيش حركة حماس اليوم في وطنها، ولا يحق لأحد أن يطلب منها مغادرة هذا البلد.
أما سيناريو القضاء على الحركة بشكل نهائي، فيبدو أنه ضرب من الخيال ناتج من أوهام القوة التي ما زالت مسيطرة على تفكير قادة الكيان الصهيوني، والتي لا بد من أنها بدأت بالتلاشي بعد طوفان الأقصى.
أما الحديث عن تهجير قطاع غزة إلى سيناء، فلن يكتب له النجاح، فالفلسطينيون أدركوا جيداً خطأهم عام 1948، كما أن الرفض المصري حاسم في هذا المجال.
لذا، جرى الحديث عن تهجير سكان شمال غزة إلى جنوبها لخلق "منطقة آمنة"، على حد زعم "إسرائيل"، وهذا أيضاً خيار لا يمكن تحقيقه، فالفلسطينيون شعب يرزح تحت الاحتلال، والمنطقة العازلة لها متطلبات، أهمها أن تكون منطقة حظر للطيران، وأن تكون هناك قوات أممية، وسوى ذلك من الشروط غير المتوفرة بشكل مؤكد، ثم لماذا لا تكون "المنطقة الآمنة" داخل العمق الذي تسيطر عليه "إسرائيل"؟ فمن يريد خلق "مناطق آمنة" لا يخلقها على حساب غيره، والفشل التركي في خلق "مناطق آمنة" داخل سوريا والعراق خير مثال على ذلك.
أما الحديث عن فكرة حل الدولتين، فيبدو أنه لا يتعدى كونه فكرة نظرية، وخصوصاً أن أولى متطلبات هذا الحل هي أن يكون لكل دولة حدودها التي ينص عليها دستورها، وإدارة مستقلة قادرة على ممارسة صلاحياتها على تلك الأرض، وهذا غير متوفر لكلتا "الدولتين" ("إسرائيل" وفلسطين).
"إسرائيل"، وبعد مرور أكثر من 75 عاماً على إنشائها، ما زالت "دولة" غير معروفة الحدود، وخصوصاً أن عقيدتها التوسعية ما زالت ترى أن حدودها تكون حيث يستطيع الجندي الصهيوني أن يصل.
أما الفلسطينيون، وبعد مرور أكثر من 30 عاماً على توقيع اتفاق أوسلو، فإن دولتهم المزعومة بموجب هذا الاتفاق ماضية في التقلص من دون توقف. وقد وصل المطاف بنتنياهو إلى مناداته بسيطرة "إسرائيل" على كامل فلسطين وتهجير الفلسطينيين إلى الدولتين العربيتين اللتين سعتا للسلام معها (مصر والأردن).
أكذوبة الدعوات الصهيونية المنادية بالقضاء على حماس
لم تكن الدعوات الصهيونية المنادية بضرورة القضاء على حماس نتيجة لما وقع في يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023؛ فمشروع تهجير الفلسطينيين هو مشروع قائم ويجري الإعداد له من قبل نتنياهو، وهو ما دفع حركة حماس إلى القيام بخطوة استباقية (طوفان الأقصى) لتفويت الفرصة على "إسرائيل".
المعطيات لدى حركة حماس كانت تشير إلى أنّ "إسرائيل" ستبدأ بعد الأعياد حرباً واسعة على قطاع غزة هدفها تهجير الفلسطينيين إلى سيناء. لذا، كانت عملية طوفان الأقصى في آخر يوم من عيد الغفران اليهودي.
المشروع الصهيوني لم يكن يستهدف حماس وحدها، بل إن هدفه هو القضاء النهائي على القضية الفلسطينية، وتهجير سكان غزة والضفة الغربية إلى مصر والأردن.
لذا، سمعنا عدة دعوات من قبيل: "لا يوجد مدنيون في غزة"، وتشبيه الفلسطينيين بالحيوانات، وغيرها من الدعوات العنصرية التي تعبر عن حقيقة هذا الكيان وعنصريته.
كل تلك الأصوات لم تكن لتعلو لولا الضوء الأخضر الأميركي، فـ"إسرائيل" لا يمكن لها الدخول في حرب من دون موافقة الولايات المتحدة الأميركية.
كما أن الرئيس بايدن هو أول رئيس أميركي يزور "إسرائيل" وهي في حالة حرب مع جيرانها، معبراً عن دعمه المطلق لحكومة الاحتلال الصهيوني فيما ترتكبه من مجازر، ومعلناً عن صهيونيته التي لم تكن تخفى على أحد طوال مسيرته السياسية.
بايدن كان أصغر سيناتور في تاريخ الولايات المتحدة (29 عاماً)، وأكبر رئيس للجمهورية (82 عاماً). ويعدّ من أبرز دعاة تقسيم العراق إلى 3 أقاليم: إقليم للسنة في الوسط، وإقليم للشيعة في الجنوب، وإقليم للكرد في الشمال.
ولعل أهم إنجازاته تتمثل في أنه كان نائباً للرئيس أوباما عندما تم تصنيع تنظيم "داعش" الإرهابي، وفقاً لتصريحات ترامب التي أكد فيها مسؤولية أوباما عن ذلك. وقد دافع عن المثليين، وصاغ عام 2022 قانوناً يحمي زواج الشواذ في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأميركية، وألغى القانون الذي أقره الكونغرس الذي يعرّف الزواج بأنه "اتحاد بين رجل وامرأة".
تلك "الإنجازات" تعبر عن ضحالة التفكير الذي وصل إليه قادة البيت الأبيض ومدى الانحطاط الخلقي والثقافي الذي يسعون إلى تصديره إلى العالم.
هل حققت الهدنة أهدافها؟
كان الغرض من الهدنة تخفيف حدة الانتقادات الرسمية والشعبية لما تقوم به "إسرائيل" من جرائم في قطاع غزة، مستهدفة المدارس والمستشفيات والنساء والأطفال على مرأى ومسمع العالم كله.
كما أنها كانت نتيجة لمطالبات أهالي الأسرى الإسرائيليين الموجودين لدى حركة حماس، وخصوصاً بعد فشل العملية العسكرية في إطلاق سراح أبنائهم.
كانت المعطيات تشير إلى حتمية عودة العمليات العسكرية لأنها لم تحقق أهدافها المعلنة، ونظراً إلى عدم وجود رأي عام دولي قادر على وقف ما تقوم به "إسرائيل" من مجازر، وفي ظل استمرار الدعم الأميركي لـها، وإن كان هذا الدعم لا يمكن أن يكون مستمراً، وخصوصاً مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية، إذ يسعى بايدن إلى تجنب أي احتجاجات أو انتقادات لسياسته، وخصوصاً أن استطلاعات الرأي تشير إلى تراجع شعبيته لمصلحة منافسه الجمهوري ترامب، وفي ظل غياب موقف عربي حقيقي قادر على تهديد "إسرائيل" ودفعها إلى التوقف عن إجرامها، بل إن بعض الدول العربية باتت تخشى انتصار حماس، كي لا يكون ذلك الانتصار انتصاراً لإيران، على حد تعبيرها.
وكان لافتاً دعوة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ للمشاركة في قمة المناخ التي تستضيفها الإمارات العربية المتحدة، في الوقت الذي تشن الطائرات الإسرائيلية أعنف الغارات على قطاع غزة.
وفي الوقت الذي تستضيف قطر قيادة حركة حماس وتقود العمليات التفاوضية للإفراج عن الرهائن، كان أميرها يسعى لمصافحة الرئيس الإسرائيلي خلال مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ (كوب 28) المنعقد في دبي!
وفي الوقت الذي يؤكد قادة الكيان الصهيوني هزيمتهم، وتتحدث وسائل الإعلام الإسرائيلية عن تلك الهزيمة، يصر بعض العرب على إنكار نصر المقاومة، مستشهدين على ذلك بحجم الدمار الذي حل بقطاع غزة، متناسين، عن قصد أو عن غير قصد، أن "الحرب حرب إرادات"، وأن الانتصار لا يقاس بمقارنة حجم الخسائر بين الطرفين فقط، بل بالإنجاز على أرض الواقع.
في الحرب العالمية الثانية، وخلال معركة ستالينغراد، كانت الخسائر الألمانية نحو 500 ألف قتيل، فيما زادت خسائر الاتحاد السوفياتي حينها على مليونين ونصف مليون جندي، لكن الانتصار في المحصلة كان للاتحاد السوفياتي، وكانت الهزيمة للنازية.
وقد أشار الرئيس بوتين إلى ذلك، فشبه حصار غزة بحصار لينغراد، حيث كانت عائلة بوتين تعيش وتعاني من النازية، وهو ما يعكس موقفاً روسياً متقدماً جداً لجهة إدانة العدوان الإسرائيلي على غزة، كما تحدث الرئيس بوتين عن أن سوء إدارة الولايات المتحدة لملف الصراع العربي الصهيوني هو ما أوصل الأمور إلى ما وصلت إليه، وقال: "في إسرائيل مواطنون روس، ونحن مسؤولون عنهم وعن أمنهم وحمايتهم"، وهو ما يعكس سعي روسيا لأداء دور أكبر في هذا الملف.
كل تلك المعطيات تشير إلى أن "إسرائيل" لم تعد قادرة على أن تكون الوكيل الحصري لحماية المصالح الأميركية في الشرق الأوسط، وأن احتواء "جنون نتنياهو" هو ما سيتم العمل عليه في الأيام المقبلة.