الولادة في السّجن.. الأسيرة أنهار الديك
سيأتي هذا الطفل حاملاً حكايته معه؛ تلك الحكاية التي ستقوم بتشكيل حياته. هو الذي ولدت فيه فلسطين، وسيحمل يوم ولادته، ليس كأحد أيام الأسبوع، بل هو يوم حرمان أمه من حقها في الولادة بين عائلتها.
الساعة الرابعة فجراً، تصرخ أنهار لزوجها: "بدي أولد". يتّصل زوجها بأحد أقاربه لنقلها بالسيارة إلى أقرب مستشفى. هناك، وبعد الصّراخ وآلام الولادة، تضع طفلها، وتبكي لفرحة قدومه، وتتذكَّر أنها حملت به مدة 9 شهور متواصلة، كانت تعمل خلالها في البيت، وتعدّ الطعام، وتنام وتصحو وتمارس نشاطها الاجتماعي، كما كلّ امرأة في هذا العالم، وتتناقش مع زوجها في اسم الطفل الذي سيلاحقه طوال حياته، ثم يتدخل الأقارب محاولين فرض أسماء يحبونها، فيما تبحث هي عن اسم عصري يناسب هذا الجيل.
تتناول أنهار مأكولات وفيتامينات من أجل تغذية الجنين، وتقوم بزيارات مكوكية إلى الطبيب بشكل دوري لمتابعة حالته، وتذهب مع زوجها ليلاً لممارسة نشاط المشي، من أجل الإسراع في الولادة والحفاظ على صحة الجنين. وفي هذا النشاط أيضاً، يتبادلان مشاعر الحب، ويتذكران أيام خطبتهما، وكيف كانت تنظر إلى زوجها المستقبلي من خلف الباب.
تلك الحكاية كانت من وحي الخيال، لأنَّ الاحتلال وضع قنبلته النفسية في وسطها ودمّرها. في آذار/مارس 2021، دخل الاحتلال بيت أنهار واعتقلها، لتتبدَّل الحكاية، وتصبح وجنينها داخل أقبية سجون الاحتلال الصهيوني، بعدما دمّر البيت، وقام بعملية تفتيش واسعة؛ هذا الاحتلال الَّذي لا ينبغي لنا مطالبته باحترام القانون الدولي بعدم اعتقال امرأة حامل، بل علينا أن نعي معادلة واحدة، هي أنَّ وجود هذا الاحتلال نفسه محرم بالقانون الإنساني.
منذ تلك الليلة، تبدَّلت الحكاية، من الولادة على سرير المستشفى إلى سرير مستشفى السجن والأصفاد في يدي أنهار، ليصبح الصراخ مضاعفاً. تلك الأيدي التي تقوم بتوليدها هي نفسها الأيدي التي اقتحمت مخيَّم بلاطة، وأطلقت الرصاص على صدر الطفل عماد حشاش. هنا، لا فرق في الأيدي. تحمل بصمات الجريمة نفسها. هذا الاحتلال يريد لهذه الولادة أن لا تتم. يريد أن يولد الجنين ميتاً. لا يريد "إرهابياً آخر"، بحسب تسميته، وهو يقاتل الشعب حتى في الزواج والحمل والولادة، ويقتل هذه اللحظات الإنسانية، ليصبح هذا الشعب من دون أحلام.
في ليلة الاعتقال، وضع الجنود الأصفاد في يدي أنهار، وأصبحت عاجزة عن ملامسة بطنها لتطمئن إلى جنينها، وتبدلت معالم الحكاية لدى الجنين أيضاً. ربما بات يدرك أنه يعيش خارج إطار المألوف، وأصبح كثير الحركة، في محاولةٍ منه للاحتجاج. بات يدرك أن السرير الذي تنام عليه أمه ليس صحياً، وأن الغذاء ليس صحياً، وهو يدرك أيضاً أنه سيبصر النور لملامسه وجه أمه بيديه، وأن هاتين اليدين، رغم صغرهما، ورغم الجدران، أكثر حرية من هذا العالم، ويدرك أيضاً أن هناك جدراناً لن يخرج منها إلا بالحرب؛ تلك الجدران التي تحاصر قطاع غزة.
في بيئة غير صحية ستعيش أنهار؛ بيئة نفسية تحطم حتى الجماد، هذه البيئة التي تشبه الفلاح الذي يحاول حراثة أرض بإبرة خياطة. ستوضع على سرير يشبه سرير الإعدام بالكهرباء، وستقاوم بكل طاقتها لإنجاب هذا الطفل، لأنه مخاض الحرية بذاتها. سيعمل الاحتلال على تعطيل عملية الولادة؛ هذه الحالة الإنسانية التي تحتاج فيها المرأة إلى أن تكون أمها إلى جانبها. ستكون بيئة الولادة هي السجن، في غرفة تفتقد الحد الأدنى من الحياة الإنسانية. هذه البيئة يحترق فيها كل شيء، ويعيش فيها العالم كما حال حجا الذي قالوه له:
- لقد أشعلت النار يا جحا!
فردّ: لا يهمني ما دامت ليست في قريتي!
- بل هي في قريتك!
- لا يهمني ما دامت ليست في حارتي!
- بل هي في حارتك!
- لا يهمني ما دامت ليست في بيتي!
- بل هي في بيتك!
- لا يهمني ما دامت ليست في سروالي!
سيولد الطفل، وستطلق عليه أنهار اسماً يحمل معه حكاية الزمان والمكان، كما أغلب الأسيرات الفلسطينيات. ستطلق عليه اسماً يحمل في حروفه القهر، فالأسيرات السابقات اللواتي عشن تجربتها، أطلقن عليه أسماء مثل وطن وحنين، وبعض الأسماء كانت تحمل اسم فلسطين نفسها، لتعبّر عن التجربة الصعبة التي يعشنها، في محاولة منهن للتحايل على الألم ومراوغته، والتأكيد أنَّ هذا الشعب يحارب بالأسماء أيضاً؛ هذه الأسماء التي يحاول الاحتلال تبديلها، فهو يعمل منذ احتلاله على تغيير أسماء المناطق والمدن والقرى والجبال... ويقوم بتغيير لافتات الشوارع وإطلاق أسماء عبرية عليها، اعتقاداً منه أن هذا التغيير يمنحه الحق في سرقة التاريخ.
سيأتي هذا الطفل حاملاً حكايته معه؛ تلك الحكاية التي ستقوم بتشكيل حياته. هو الذي ولدت فيه فلسطين، وسيحمل يوم ولادته، ليس كأحد أيام الأسبوع، بل هو يوم حرمان أمه من حقها في الولادة وسط عائلتها؛ يوم فقدان الأمان.
سيكون مكان ولادته هو ذكرى فقدان حقه بالولادة في حالة طبيعية، وسيكتب في خانة مكان الولادة "السّجن"، وستبقى الجنسية فلسطينياً، رغم كل شيء. لن يمنح هذا الطفل تأشيرة دخول إلى كلّ العالم مثل الطفل الذي يولد بالطائرة، ولكن أطفال فلسطين يمنحون الحرية لكلّ العالم، وهذه أهمّ تأشيرة في التاريخ البشري. نحن الذين نفتقد تلك الحرية، نقول لك ما قاله الشاعر محمود درويش:
لا إخوة لك يا أخي، لا أصدقاء يا صديقي، لا قلاع.
لا الماء عندك، لا الدواء، ولا السماء، ولا الدماء، ولا الشراع.
ولا الأمام، ولا الوراء.
حاصر حصارك لا مفرّ.