الممر الهندي الشرق أوسطي الأوروبي: نظام إقليمي بقيادة "إسرائيل" وتابع لواشنطن
من شأن الممر الهندي الشرق أوسطي الأوروبي أن يأتي على حساب خط الربط البري المزمع إنشاؤه من إيران فالعراق ثم سوريا فشرق المتوسط مع احتمال وجود فرع لهذا الخط يمتد عبر لبنان.
في يومي 9 و10 أيلول/ سبتمبر 2023، عقدت في نيودلهي في الهند قمة دول مجموعة العشرين التي بحثت في عدد من النقاط الرئيسية التي تهم الدول الأعضاء والعالم.
وكان لافتاً غياب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فيما ترأس وزير خارجيته سيرغي لافروف الوفد الروسي. أيضاً كان تغيّب الرئيس الصيني شي جين بينغ يشي بأن مقررات القمة ستكون موجهة ضد الصين، خصوصاً في ظل التقارب الهندي مع الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة. وقد صدق ما تخوف منه الرئيس الصيني إذ أعلنت الولايات المتحدة والهند وأوروبا عن إطلاق مشروع الممر الهندي الشرق أوسطي الأوروبي ليصل بين الهند وأوروبا.
مسار الممر
يعدّ الممر الهندي الشرق الأوسطي الأوروبي ممراً اقتصادياً يهدف إلى تعزيز الاتصال بين المناطق الثلاث. ويتضمن فرعين رئيسيين، الممر الشرقي، الذي يربط الهند بالخليج العربي، والممر الشمالي، الذي يربط الخليج العربي بأوروبا.
وسيمتد الخط من الموانئ الهندية عبر البحر إلى ميناء الفجيرة في الإمارات العربية المتحدة لتنقل البضائع عبر السكة الحديد عبر أراضي الإمارات العربية والمملكة العربية السعودية والأردن فالكيان الصهيوني إلى ميناء حيفا، لتنقل بعدها البضائع بحراً إلى موانئ بريوس اليوناني وميسينا الإيطالي ومرسيليا الفرنسي.
ويضم الممر المتعدد الوسائط خطوط السكك الحديدية والشحن، والكابلات البحرية للكهرباء والاتصالات، وأنابيب لصادرات الهيدروجين النظيف. ومن المتوقع أن يربط الممر بين الهند والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والأردن و"إسرائيل" وبعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. وسيؤدي ذلك إلى تعميق العلاقات الاقتصادية بين الدول الأعضاء في المشروع ويعزز علاقات الهند الاستراتيجية مع دول غرب آسيا.
أهداف الولايات المتحدة الجيوسياسية
على الرغم من ترحيب الصين بمبادرة الممر، حذّرت من أن تكون له "أجندة سياسية." والجدير ذكره أن مبادرة الممر التي تقدم على أنها ذات طابع اقتصادي بحت ما هي إلا الترجمة الاقتصادية لاتفاقية التنسيق الأمني التي عقدت بين الولايات المتحدة و"إسرائيل" والإمارات العربية المتحدة والهند والمعروفة بـ "أي تو يو تو"، وهي شراكة جديدة بين حكومات الهند و"إسرائيل" والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة. وتهدف إلى تعزيز جهود الولايات المتحدة لاحتواء نفوذ الصين في آسيا والشرق الأوسط.
يهدف الممر الهندي الشرق أوسطي الأوروبي من وجهة نظر واشنطن إلى إبطاء انجذاب منطقة الخليج نحو التكامل الأوراسي ومجموعة "بريكس"، وعزل مصر وإيران وتركيا التي تتقارب بشكل متزايد مع روسيا، وجعل ميناء حيفا قابلاً للحياة من خلال توليد الأعمال وجعله مركزاً للنقل بين غرب آسيا وأوروبا، وتعزيز المحور الإسرائيلي- اليوناني في شرق البحر الأبيض المتوسط وربطه بأمن الطاقة في أوروبا وتوفير الدعم لحلف شمال الأطلسي في مرحلة تؤكد فيها تركيا استقلالها الاستراتيجي وتقليل الاعتماد على قناة السويس؛ لأن الدول المطلة على البحر الأحمر – اليمن والصومال وجيبوتي وإثيوبيا وإريتريا والسودان – لم تعد مستعدة لخدمة المصالح الغربية.
والجدير ذكره أن تهميش قوى مثل العراق ومصر وتركيا وإيران ودمشق يمثل تهميشاً للأقطار العربية والإقليمية التي لعبت دوراً رئيسياً وريادياً في سياسات المنطقة منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا، وهذا يدلل على رغبة الولايات المتحدة في تهميش الأدوار الاقتصادية، وبالتالي الجيوسياسية لهذه الأقطار في منظومة الشرق الأوسط الذي تريد واشنطن إقامته حتى تضمن تبعية النظام الإقليمي لها.
وهذا يأتي تطبيقاً لمفهوم تحالف الأطراف الذي أطلقه مؤسس الكيان الصهيوني ديفيد بن غوريون في العام 1958، والذي يقوم على تحالف الكيان الصهيوني مع قوى غير عربية مثل تركيا وإيران وإثيوبيا لتطويق الدول العربية ومنعها من لعب دور إقليمي فاعل، وهو ما عدّه في رسالة إلى الرئيس الأميركي الأسبق دوايت آيزنهاور (1953 – 1961) أنه يضمن ولاء الشرق الأوسط للنفوذ الأميركي.
لكن انتصار الثورة الإسلامية في إيران في العام 1979 وتمردها على الهيمنة الأميركية من جهة، وتمرد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان على الهيمنة الأميركية على تركيا بعد العام 2013 من جهة أخرى يبدو أنها جعلت الأميركيين يعدلون هذه المقاربة، ويضيفون إيران وتركيا إلى قائمة الدول التي يجب تهميشها في أي نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط على أن تعتمد واشنطن على "إسرائيل" بالدرجة الأولى، وعلى عواصم عربية أو إقليمية مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والأردن وقبرص لم يكن لها تاريخياً دور ريادي في العالم العربي الإسلامي.
لذا، فإن الجزء الشرق الأوسطي من العمود الفقري ليس لخط تجاري فقط، بل هو العمود الفقري أيضاً لمنظومة إقليمية تقوم على دور محوري وريادي لـ"إسرائيل" في قيادة المنظومة الشرق أوسطية التابعة للولايات المتحدة، وذلك بالتعاون مع الأردن والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. أما ربطه بأوروبا فهو لضمان تبعية هذا النظام الشرق أوسطي إلى الغرب، وفي ما يتعلق بالعلاقة بالهند فهو لربطه بطرف آسيوي منافس للصين لإبعاده عن التقارب مع القوى الأوراسية البرية التي تعدّ امتداداً للنفوذ الصيني.
القوى الشرق أوسطية المستفيدة من الخط
وتعدّ "إسرائيل" أكثر كيان سيستفيد من الممر الهندي الشرق أوسطي الأوروبي. فمن وجهة نظر جيوسياسية، فإن هذا الخط يعتمد استراتيجية أرستها هي في أواخر الخمسينيات وتقوم على تحالف دول الأطراف ضد الدول العربية، لتصبح بعد تعديلها من جانب الولايات المتحدة قائمة على تهميش القوى العربية والإسلامية القادرة على لعب دور إقليمي مستقل وإعطاء "إسرائيل" الدور المحوري في منطقة الشرق الأوسط.
وهذا الممر الهندي الشرق أوسطي الأوروبي يجعل الكيان الصهيوني حلقة الربط الرئيسية بين الهند من جهة وأوروبا من جهة أخرى. وقد وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إطلاق الممر بأنه من أهم التحولات بالنسبة إلى الإسرائيليين لأنه سيجعلها محور هذا المشروع العالمي الذي يربط بين الهند من جهة وأوروبا من جهة أخرى، بما سيغير من وجه الشرق الأوسط.
وأكد أن "إسرائيل" ستقدم كل مهاراتها ومعارفها ودوافعها وتفانيها لتحقيق أكبر مسعى تعاوني في تاريخها. وأضاف أنه سيتم إعطاء الإشارة الخضراء لجميع الوزارات الحكومية للتعاون في تحويل هذا الطموح إلى واقع.
كذلك، فإن الأردن سيستفيد من المشروع بصفته جسر عبور الممر من حيفا إلى المملكة العربية السعودية ومنها إلى الإمارات العربية المتحدة ومنها إلى الخط البحري الذي سينقل البضائع الأوروبية إلى الهند.
وفي ما يتعلق بالمملكة العربية السعودية، فقد رحّب ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بالمشروع الذي يساهم في فك العزلة الغربية المفروضة عليه منذ اتهام واشنطن له بمقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في العام 2018.
ويرى ابن سلمان أن هذا المشروع يعطي المملكة العربية السعودية دوراً محورياً في الشرق الأوسط ويساهم في تدفق الأموال والاستثمارات إلى المملكة العربية السعودية، والتي تحتاجها المملكة لدفع رؤية المملكة 2030 قدماً، خصوصاً أنها تهدف إلى إعادة هيكلة الاقتصاد السعودي لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين. ويساهم المشروع في إعطاء الرياض فرصة للعب على هامش التناقضات والصراع بين الولايات المتحدة من جهة والصين من جهة أخرى على الريادة العالمية.
وبالنسبة إلى الإمارات العربية المتحدة، فإن الممر أعطاها دوراً مركزياً بصفتها مركز الموانئ التي ستستقبل السفن القادمة على الخط البحري من الهند إلى الإمارات لتنتقل بعدها عبر خط السكة الحديد إلى الأردن فالكيان الصهيوني إلى ميناء حيفا ومنه إلى أوروبا. هذا يعزز ويرسخ الدور المحوري الذي تلعبه موانئ دبي العالمية وغيرها من الشركات الإماراتية.
القوى الشرق أوسطية المتضررة من الخط
من المتوقع أن يوجه الخط ضربة قوية لكل من إيران والعراق وسوريا وحتى تركيا ومصر، خصوصاً أن الخط الهندي الشرق أوسطي الأوروبي يتجاوز هذه الدول ولا يمر فيها، بل ويمثل ضربة قوية لمشاريع طرق ربط تمر فيها. فكما أشرنا سابقاً، فإن أحد أهداف الممر هو تجاوز قناة السويس ومنطقة البحر الأحمر بهدف تهميش مصر وتجاوز منطقة مليئة بالتوترات.
ومن الملاحظ أن الممر يتجاوز تركيا ولا يمر فيها، وهذا جعل الرئيس التركي رجب طيب إردوغان يعترض على الخط. وقال خلال قمة العشرين إنه لا يمكن أن يكون هنالك ممر من دون تركيا التي "تشكل قاعدة إنتاجية وتجارية مهمة والخط الأكثر ملاءمة لحركة المرور من الشرق إلى الغرب يجب أن يمر عبر تركيا."
ومن المتوقع للممر الهندي الشرق أوسطي الأوروبي أن يمثل ضربة قوية لخط التنمية العراقي الذي تم إطلاقه في حزيران/ يونيو 2023 والذي يلقى دعم تركيا وقطر، خصوصاً أنه يمتد من شبه جزيرة الفاو في جنوب العراق إلى شمال العراق فتركيا إلى شرق المتوسط. وهو يعدّ خطة طموحة بقيمة 17 مليار دولار أميركي تقدم بها القادة العراقيون لتحويل العراق إلى مركز إقليمي للنقل من خلال تطوير البنية التحتية للطرق والسكك الحديدية، التي تربط أوروبا بالشرق الأوسط.
كذلك، فإن من شأن الممر الهندي الشرق أوسطي الأوروبي أن يأتي على حساب خط الربط البري المزمع إنشاؤه من إيران فالعراق ثم سوريا فشرق المتوسط مع احتمال وجود فرع لهذا الخط يمتد عبر لبنان.
العقبات التي تواجه المشروع
على الرغم من الآفاق الواعدة بالنسبة إلى المشروع، أقلّه بالنسبة إلى الأطراف المنخرطة فيه، فإن هناك العديد من العقبات التي تعترض تنفيذه وأولاها المعارضة التي ستنشأ من جانب الدول التي ينوي المشروع تهميشها وضمنها إيران والعراق وسوريا.
كذلك، فإن هذا المشروع يواجه تحدي تصاعد المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، والتي يمكن أن تهدد فرص "المرور الآمن" للبضائع عبر الضفة الغربية إلى ميناء حيفا. أيضاً، فإن تصاعد المقاومة الفلسطينية يحوّل المناطق التي سيمر جزء من سكة الحديد إلى منطقة حرب ما سيؤثر سلباً في استعداد شركات عالمية لاعتماد هذا الخط، عدا عن ارتفاع أكلاف التأمين على البضائع وحافلات النقل من قبل شركات التأمين العالمية.
لكن التحدي الرئيسي الذي سيواجهه المشروع هو في الجانب العملي المرتبط بحلقات مفقودة في البنى التحتية التي يجب إتمامها قبل أن يصبح المشروع جاهزاً للانطلاق. فهناك "حلقات مفقودة" في أنظمة السكك الحديدية في منطقة الخليج. وبالتالي، فمن إجمالي طول السكك الحديدية البالغ 2915 كيلومتراً والممتدة من ميناء الفجيرة في الإمارات العربية المتحدة إلى حيفا، هناك أجزاء مفقودة يبلغ طولها نحو 1100 كيلومتر أي ما يساوي ثلث خط السكة الحديد، عدا عن الحاجة إلى تأهيل أجزاء متقادمة من خط السكة الحديد حيث يعود بعضها إلى الحرب العالمية الأولى قبل أكثر من مئة عام.
كذلك، فإن الخط البحري الممتد من الموانئ الهندية إلى ميناء الفجيرة يمر عبر مضيق هرمز. وإذا كان من أهداف مشروع الممر الهندي الشرق أوسطي الأوروبي تهميش إيران، فإن مجرد مروره عبر مضيق هرمز يجعله تحت رحمة طهران.
بالمحصلة، فإن خط المرور الهندي الشرق أوسطي الأوروبي يتخذ طابعاً اقتصادياً بالظاهر، لكنه في جوهره ذو طبع جيوسياسي بدرجة كبيرة، وهو يهدف إلى إبعاد الدول الخليجية والعربية عن القوى الأوراسية وعلى رأسها الصين وروسيا، ويهدف إلى ربطها بشبكة علاقات متشعبة مع الهند من جهة وأوروبا من جهة أخرى في محاولة لتطويق القوى الأوراسية التي تواجه الهيمنة الأميركية من الجنوب.
لكن الأخطر في الأمر على الصعيد الإقليمي هو أن هذا الخط يهمش القوى العربية والإسلامية التي لعبت دوراً تاريخياً ريادياً مستقلاً في المنطقة، مثل مصر وسوريا والعراق وإيران وتركيا لصالح الكيان الصهيوني الذي سيكون دوره محورياً في مشروع الممر وريادياً في منطقة الشرق الأوسط، بالشراكة مع دول عربية لم يكن لها تاريخياً دور ريادي مستقل في المنطقة، بما يضمن أن يكون النظام الإقليمي الذي تسعى واشنطن لإقامته تابعاً لها بالكامل.