"قسد" والحكومة الانتقالية في سوريا...هل بات الصراع حتمياً

لا تزال الحكومة المؤقتة تسعى لعدم الدخول في أي صراعات، سواء أكانت داخلية أو خارجية، للتفرغ لحالة البناء والتنمية التي تحتاجها سوريا، وتشكل الأولوية للمواطن السوري بكل تأكيد.

0:00
  • الأولوية للحوار مع
    الأولوية للحوار مع "قسد".

تسعى الحكومة الانتقالية في دمشق إلى بسط سيطرتها على كامل الأراضي السورية؛ تعزيزاً لسلطة الدولة، ونبذ منطق الفصائل والمجموعات العسكرية التي بات وجودها عائقاً أمام التوصل إلى استقرار سوريا.

العديد من الفصائل عبّرت عن قلقها من تلك الدعوة، إذ لم يتم التوصّل إلى صياغة نظام قانوني يشكّل حجر الزاوية لصياغة الدستور القادم للبلاد. تلك الفصائل ترى أنه لا بدّ من تكريس منطق الدولة أولاً، من ثم ستقوم بتفكيك نفسها، أو الانضواء تحت مظلة وزارة الدفاع.

وجهة نظر الحكومة في دمشق ترى أنه لا يمكن الحديث عن إمكانية بناء الدولة في ظل الوجود المنفلت للسلاح بيد العديد من الجماعات، فالدولة وحدها من يحق له احتكار السلطة.

هذا المنطق يبدو أنه الأقرب إلى الواقع، فلا مجال للحديث عن الدولة في ظل وجود "كيانات ما قبل الدولة"، حيث الانتماءات الطائفية والإقليمية والعرقية...إلخ.

الكثير من الفصائل يبدو أنها تتفهم رؤية دمشق، لكن العقبة تكمن في الجنوب حيث توجد بعض المجموعات في مدينة السويداء، وفي الشمال حيث تسيطر "قسد" الانفصالية. المشكلة في كلتا الحالتين هي وجود العامل الخارجي الذي يتحكم بتلك المجموعات أو يدعمها على أقل تقدير، أقصد هنا كلاً من "إسرائيل" والولايات المتحدة الأميركية.

الأولوية للحوار مع "قسد"...

تسعى حكومة دمشق للحوار مع "قسد"؛ نظراً إلى حاجتها أولاً إلى آبار النفط والغاز التي تسيطر عليها تلك المجموعات، واستجابة لرغبة أنقرة في وضع نهاية للتهديدات التي تتعرض لها باعتبار أن قوات "قسد" ليست سوى امتداد لحزب "العمال" الكردستاني المحظور في تركيا.

الدعم الأميركي لقوات "قسد" يشكل بيضة القبان في ذلك الصراع، خصوصاً أن القوات الأميركية الموجودة في منطقة شرق الفرات لا تتردد في تقديم الدعم اللازم لتلك المجموعات.

تغيّر الإدارة الأميركية ووصول ترامب إلى البيت الأبيض يزيدان من احتمالية التوصل إلى حل مع تركيا يسمح لأنقرة بالتخلص من التهديدات التي تشكلها "قسد" على طول الحدود بين سوريا وتركيا.

العلاقة الجيدة بين ترامب وإردوغان تزيد من فرص نجاح أنقرة في ذلك، لكن الحكومة الانتقالية في دمشق ما زالت تسعى لإيجاد حل دبلوماسي يتوّج بانضواء "قسد" تحت مظلة وزارة الدفاع السورية.

المشكلة في تلك المجموعات أنه لا يمكن اعتبارها ممثلاً عن الكرد جميعاً، فالكثير منهم يعدّ نفسه سورياً أولاً وقبل كل شيء.

عدد كبير من عناصر"قسد" هم من أبناء العشائر العربية، التحقوا للقتال معها نتيجة للواقع الاقتصادي الصعب الذي عانت منه تلك المناطق، في ظل تراجع الزراعة وغياب فرص العمل.

قيادات "قسد" وعلى رأسهم قائد القوات "مظلوم عبدي" ليسوا سوريين، أو أنهم يحملون جنسيات دول أخرى على أقل تقدير، وهو ما يثير الكثير من التساؤلات حول عدد المقاتلين الأجانب في الجيش السوري الموعود.

استقلالية تلك المجموعات في قرارها السياسي أمر مشكوك فيه، وبالتالي لا بد من التحدث مع مشغّليهم الرئيسيين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية.

رغبة "قسد وأخواتها" في الانضواء تحت مظلة وزارة الدفاع كفصيل لا كأفراد أمر غير مقبول، خصوصاً أنها تشترط أن ينحصر نطاق عملها في مناطقها الحالية. رغبة "قسد" في الحصول على نصف النفط السوري أمر غير مقبول، خصوصاً أنه لا يتناسب مع حجمها الذي لا يتجاوز 9% من الشعب السوري.

الحكومة الانتقالية ونبذ منطق الصراع...

لا تزال الحكومة المؤقتة تسعى لعدم الدخول في أي صراعات، سواء أكانت داخلية أو خارجية، للتفرغ لحالة البناء والتنمية التي تحتاجها سوريا، وتشكل الأولوية للمواطن السوري بكل تأكيد.

تغيير صورة سوريا هو ما تسعى إليه حكومة دمشق، وتؤكد أنها تأمل في تصفير مشكلاتها مع الجميع، شريطة الحفاظ على سيادتها وقرارها الوطني.

سوريا اليوم بحاجة إلى الجميع، وإدراك الحكومة الانتقالية حجم سوريا "المدمرة" ومكانتها غير الفاعلة، عامل قوة لا عامل ضعف، فاللاعب السياسي الجيد هو من يعي ويدرك حجمه ومكانته على الساحة الدولية، بعيداً من سوء الإدراك والتقدير الرغبوي.

رسائل الطمأنة التي ترسلها حكومة دمشق إلى الداخل والخارج هامة جداً، لكنها لم تستطع تبديد مخاوف الجميع بكل تأكيد.

التشويش الكبير الذي تتعرض له القرارات الحكومية يؤكد أن الحكومة الانتقالية تحت المجهر، وأن "الثورة المضادة" لن تكون مجرد فكرة، إذا ما فشل حكام دمشق الجدد في طمأنة الناس لا تعزيز مخاوفهم.

الدروس المستفادة من أخطاء النظام السابق هي العبرة، والمواقف السياسية هي المحك، والحنكة السياسية تعني عدم تكرار تلك الأخطاء بأي شكل من الأشكال. 

التراجع عن الكثير من القرارات الحكومية الخاطئة، أو غير المقبولة شعبياً، يشكل عامل قوة لصانع القرار، ولايعد عامل ضعف بأي شكل من الأشكال.

الحديث في "المسكوت عنه" عامل طمأنينة للناس، بعيداً من لغة التخوين والوعيد، وإدراك مخاوف الناس (نوع من الحنكة)، والقدرة على تبديدها هو المعيار لبناء الثقة بين السلطة والمواطن.

عودة جميع ضباط وعناصر الجيش والشرطة ممن لم تتلطخ أيديهم بالدماء، ولم تتلوث بسرقة أموال الشعب السوري، مطلب شعبي لا غنى عنه، والحديث عن فلول النظام السابق يجب أن يكون أكثر دقة وتحديداً.

تسريح الموظفين أو استبدالهم بآخرين يشكّل تجاوزاً للقوانين المعمول بها، ويتنافى مع تعزيز سيادة القانون التي تسعى السلطة الانتقالية لترسيخها.

العدالة الانتقالية ومحاسبة مجرمي الحرب مطلب شعبي، وتطبيقه يحتاج إلى هيئات مستقلة، ودور الحكومة يجب أن يقتصر على تقديم ما تحتاجه تلك الهيئات وضمان استقلاليتها.

إماطة اللثام عن عناصر "هيئة تحرير الشام" يعزز ثقة المواطن بهم، ويؤكد الرغبة في محاسبة المقصّرين أو المسيئين منهم.

البدء بصفحة جديدة وإطلاق سراح جميع السجناء يعزز منطق المصالحة الوطنية، مع التشديد على حماية الحقوق الشخصية وضمان عودتها إلى أصحابها.

معالجة موضوع الأجانب ووجودهم في وزارة الدفاع بحاجة إلى شفافية وإيضاح، وهو مطلب شعبي تشكل الاستجابة له رصيداً إضافياً يضاف إلى رصيد "هيئة تحرير الشام" التي استطاعت تخليص سوريا من النظام البائد.

إعادة النظر في تشكيل الحكومة السورية يرسل رسائل إيجابية إلى جميع مكوّنات الشعب السوري، ويؤكد الانتقال إلى مرحلة جديدة عنوانها البناء والتنمية، وعمادها أبناء سوريا من التكنوقراط.

تكريس فكرة التسامح التي ميّزت "الإسلام الشامي" عن سواه أمر هام وحاجة تسعى العديد من دول العالم إلى نقلها، بعد أن لحق بالإسلام العديد من التشدد والتشويه.

الحديث عن المكوّنات أمر مقبول حالياً، لكن الهدف هو التوصل إلى مفهوم المواطنة وتعزيزها، ليتسنى للجميع أن يكونوا متساويين في الحقوق والواجبات.

جمع السلاح وغياب جميع المظاهر المسلحة، عامل يبعث الأمن والطمأنينة، ويبشر باستعادة سوريا استقرارها الذي يشكل حجر الأساس في جذب المستثمرين إليها.

التحديات كبيرة، والرغبة في العمل تعزز من حسن النوايا التي يبدو أنها موجودة لدى الحكومة الانتقالية في دمشق، مع الإشارة إلى أن بناء الوطن هو مسؤولية الجميع.

هنا، لا بد من الإشارة إلى أهمية مؤتمر الحوار الوطني المزمع عقده، فنجاحه سيكون البوصلة لإعادة إعمار سوريا، أما فشله فسيكون مسماراً في نعش سوريا الواحدة الموحّدة.

عندها فقط نستطيع دحض نبوءة هنري كيسنجر الذي قال: ذروة الصراع في سوريا هو إطاحة نظام الأسد، ثم سيليه تقسيم سوريا على أساس طائفي وديني وعرقي...إلخ.