المصيدة الأميركية.. قراءة في أهداف محادثات جنيف بشأن السودان
لم تكن الدعوة الأميركية إلى المباحثات في جينف نتاج تواصل وتفاهم مع كل الأطراف المعنية، ولا حتى مع من دعتهم إليها، وإنما من خلال بيان أشبه ما يكون بأمر صادر عن سلطة مختصة، لا من دولة ترغب في أن تكون وسيطاً.
في الـ23 من تموز/يوليو الجاري، دعت الولايات المتحدة الأميركية الجيش السوداني وقوات الدعم السريع إلى محادثات في جنيف، تبدأ منتصف شهر آب/أغسطس المقبل، بهدف التوصل إلى ما سمّته وقف العنف، وتمكين وصول المساعدات الإنسانية، وتطوير آلية قوية للرصد والتحقق من أجل ضمان تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه في المباحثات.
لم تكن الدعوة الأميركية إلى هذه المباحثات نتاج تواصل وتفاهم مع كل الأطراف المعنية، ولا حتى مع من دعتهم إليها، وإنما من خلال بيان أشبه ما يكون بأمر صادر عن سلطة مختصة، لا من دولة ترغب في أن تكون وسيطاً.
كما أن "الدعوة" لم توجه إلى الحكومة السودانية المعترف بها دولياً، وإنما وُجِّهت إلى الجيش، الأمر الذي يؤشر على موقف أميركي من شرعية السلطة القائمة، والتي صُنعت على أعينها.
تجاوزت الدعوة الأميركية أطرفاً مهمة، معنية بصورة مباشرة وعلى نحو رئيس بالحرب، مثل حركات دارفور الحاملة للسلاح، والمقاومة الشعبية التي أنتجها المجتمع السوداني، الذي استهدفته قوات الدعم السريع، وأذاقته ضروب العذاب من قتل واغتصاب ونهب وتهجير وتصفية عرقية، وغير ذلك من جرائم الحرب، والإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وأهوالها.
جاءت دعوة أميركا إلى هذه المباحثات بعد أن فشل رمطان لعمامرة، مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى السودان في تحقيق أي من الأهداف التي من أجلها عُقدت المباحثات غير المباشرة، والجارية في جنيف منذ نحو 3 أسابيع تحت رعايته، ولم تحرز أي تقدم في الأجندة التي طرحها، والتي تتطابق مع أجندة المباحثات التي وردت في الدعوة الأميركية.
كما تأتي هذه الدعوة مع بداية فصل الخريف الذي يحرم قوات الدعم السريع من خاصية "الحركة الطَلِقَة السريعة"، والتي تميزت بها، ويوفر للجيش فرصة كبيرة في حركة واسعة على مسارح العمليات قد تمكنه من الانطلاق في عمليات تحرير للمدن التي احتلتها "الدعم السريع"، وخصوصاً في ولايات الخرطوم والجزيرة وسنار. لهذا تعمل أميركا على سَوق قائد الجيش إلى تسوية يتم من خلالها وقف إطلاق نار يحرم الجيش من تلك الفرصة، ويمكّن "الدعم السريع" من التقاط أنفاسها، وترتيب صفوفها، واستكمال احتياجاتها اللوجستية، كما حدث في الأشهر الأولى من الحرب.
ثمة أهداف أخرى تريد الولايات المتحدة الأميركية تحقيقها من خلال مباحثات جنيف، المنتظر عقدها في 14 آب/أغسطس المقبل. وبين تلك الأهداف، ما يلي:
أولاً: تجاوز منبر مدينة جدة الذي استضاف أول مفاوضات بين الجيش و"الدعم السريع"، والذي صدر عنه "إعلان جدة"، الذي التزمت بموجبه قوات الدعم السريع الخروج من منازل المواطنين، ومن الأحياء السكنية، ومن المستشفيات ومحطات إنتاج الكهرباء والمياه، ومن كل الأعيان المدنية التي حولتها إلى ثكن عسكرية. وهو شرط وافقت أميركا و"الدعم السريع" على تضمينه في الإعلان الذي تم توقيعه في جدة، يوم 11أيار/مايو 2023، قبل أن تتضعضع ثقتها بتحقيق نصر على الجيش، وترغب الآن في تحرير "الدعم السريع" منه.
ثانياً: فرض وقف إطلاق نار شامل، وسيمنح ذلك "الدعم السريع" مشروعية ويجعلهاً نداّ للجيش ويكرس وجودها، وسيفتح لها أبواب العودة إلى المشهد السياسي عبر مكانة ودور سياسي ودور اقتصادي على النحو الذي يتمتع به الجنرال خليفة حفتر في شرقي ليبيا.
ثالثاً: سيُبقي اتفاق وقف إطلاق النار على قوات الدعم السريع في أماكنها الحالية، وسيُمكن هذا من تكريس احتلالها عدداً من ولايات السودان، بما فيها ولاية الخرطوم، وسيفتح ذلك أبواب تقاسم النفوذ في جغرافية السودان كخطوة متقدمة نحو تقسيم جديد للسودان، تنتج منه خرائط جيوسياسية جديدة.
رابعاً: سيمنح اتفاق وقف إطلاق النار قوات الدعم السريع مسوّغاً للبقاء في مساكن المواطنين، وسيحوّل من دون عودتهم إليها، وإلى القرى والمدن التي هجرتهم منها بغرض إحلال مستوطنين جيء بهم من دول غربي أفريقيا ووسطها مكانهم، ووطّنتهم في تلك المساكن والقرى والمدن.
خامساً: سيفتح وقف إطلاق النار المجال أمام استدعاء قوات أجنبية تحت مظلة مراقبة وقف إطلاق النار، وهذا الذي عبر عنه صراحة وزير الخارجية الأميركي.
سادساً: سيساهم وقف إطلاق النار في إذكاء نار الحرب بين حركات دارفور المسلحة والمقاومة الشعبية من جانب، وبين قوات الدعم السريع في المناطق التي احتلتها وتلك التي تحاصرها، من جانب آخر، لسببين؛ أولهما استبعاد أميركا لهما من مباحثات جنيف، الأمر الذي يجعلهما خارج أي التزامات قد تنتج من المباحثات، بما في ذلك مضامين اتفاق وقف إطلاق النار، كونهما لم يكونا طرفاً في الحوار والاتفاق عليه. وثاني الأسباب يعود إلى سعيهما نحو تحرير المناطق المحتلة وفك الحصار عن المناطق المحاصرة وفاءً بالتزامهما، أخلاقياً ووطنياً، ولتمكين السكان الأصليين من العودة إلى ديارهم بعد تحريرها من المستوطنين الجدد.
سابعاً: سيفتح أي اتفاق بشأن الأوضاع الإنسانية الفرص أمام مزيد من التدخل الأجنبي في الشأن السوداني، وستستغل القوى الغربية هذا الاتفاق في إطالة أمد الحرب وضمان استدامتها، عبر تغذية التمرد، واحتياجاته المتعددة، عبر بوابات المساعدات الإنسانية، التي لم يجُد الغرب بها يوماً على محتاجيها في فلسطين أو السودان.