المحكمة العليا الإسرائيلية تُسقط قانون التغلّب.. ماذا عن شكوى العدل الدولية؟
هل يمكن لـ"إسرائيل" أن تقنع محكمة العدل برفض الشكوى ابتداءً، في ظل حرب إبادة مكتملة الأركان تجري عبر البث المباشر ضد مليوني فلسطيني في غزة؟
ليس توقيت القرار الصادر عن المحكمة العليا الإسرائيلية، ضد قانون "حجة المعقولية"، متصلاً فقط بحالة الحرب التي يشهدها الكيان العبري ضد غزة، لكنه أيضاً متصل بالدعوى التي تقدمت بها جنوب أفريقيا لدى محكمة العدل، ضد حرب الإبادة الإسرائيلية الوحشية، وتبيّن أن ثمة رابطاً خفيّاً بين الأمرين. فما هو هذا الرابط الغائب عن تسليط الضوء عليه؟
إنها المرة الأولى التي تتقدم فيها دولة في العالم ضد "إسرائيل"، بشكوى رسمية لدى محكمة العدل، وكانت المفاجأة أن "إسرائيل" وافقت على حضور جلسة النظر في الدعوى، والمتوقع عقدها هذا الخميس، والتي تقدمت بها جنوب أفريقيا نيابة عن دول أخرى، بوليفيا وجيبوتي وجزر القمر وبنغلادش.
ويبدو أن نية الحضور الإسرائيلي، على رغم الغضب الشديد من الشكوى، مبعثه محاولة إسرائيلية لرد الدعوى، أو احتوائها حتى لا يصدر عنها قرار سريع بوقف النار في غزة. لكن، هل يمكن لـ"إسرائيل" أن تقنع محكمة العدل برفض الشكوى ابتداءً، في ظل حرب إبادة مكتملة الأركان تجري عبر البث المباشر ضد مليوني فلسطيني في غزة؟
يبدو أن هذا من أهم الأسباب التي دفعت المحكمة العليا، مع أسباب سابقة أخرى، إلى المسارعة إلى إبطال هذا القانون، على رغم حالة الحرب. وهي المرة الأولى التي يجتمع فيها كامل أعضاء هيئة المحكمة العليا الخمسة عشر، للنظر في أمر ما، وهو هنا قانون إشكالي أقره الكنيست في تموز/يوليو الماضي بالأغلبية، تحت عنوان "قانون أساس القضاء"، وقضى بتقليص صلاحية المحكمة العليا ضد قرارات رئيس الحكومة أو أيّ من وزرائه، بدعوى أنها قرارات "غير معقولة"، وهو القانون الذي تسبب، قبل صدوره وبعده، بموجة احتجاجات داخلية غير مسبوقة.
قرار المحكمة العليا هذا، هل هو بالفعل خيانة للجنود في ميدان الحرب، كما صرّح الأحمق إيتمار بن غفير، وتبعه كثيرون من الائتلاف اليميني الحاكم؟
عند التدقيق في خلفيات قرار المحكمة العليا هذا، يتبين أنه أفضل "إجراء قانوني" لحماية الجنود وضباطهم وقادتهم، في حربهم الوحشية على غزة، لأن قوانين محكمة العدل ليست فعالة ضد "دولة" يمتلك قضاؤها الصلاحية الأولى، ولعل هذا التوصيف هو ما ستختبئ خلفه "دولة" الكيان الإسرائيلي، ولو أن المحكمة العليا قبلت التغلب عليها، وفق قانون الكنيست الصادر في تموز/يوليو، أو أجلت النظر في الأمر إلى ما بعد الحرب، فإن الدفوع الإسرائيلية، من هذه الزاوية، ستسقط مباشرة كون الحكومة التنفيذية ومن خلفها السلطة التشريعية هي سيدة الأمر وليس السلطة القضائية. وبالتالي، من واجب محكمة العدل الدولية لجم تغول هذه الحكومة التي لا تخضع لسلطة قضائية داخلية.
ولتفصيل الأمر، فإن "إسرائيل" لطالما زعمت أنها تطبق مبدأ "التتامّ" (Complementarity)، والذي يشكل شرطاً مركزياً للإعفاء من المحاكَمة الدولية. ويقضي هذا المبدأ القانوني بأن الدولة المشتكى عليها بارتكاب جنودها وضباطها جرائم حرب، إذا كان لديها جهاز قضائي مستقل وقادر على التحقيق في هذه (الشبهات) بصورة جدية وموضوعية، تفقد محكمة العدل الدولية صلاحيتها لإجراء محاكَمات جنائية بحق مشتبه في ارتكابهم جرائم دولية؛ بمعنى أن قرار المحكمة العليا الإسرائيلية وفر للتوحش الإسرائيلي مظلة تحميه، على الأقل وفق هذا المدخل، إلا إذا توافرت معطيات أخرى تدفع المحكمة إلى إصدار قرار فوري بوقف القتال، أو طعنت في استقلالية القضاء أمام حرب الإبادة المشتكى عليها.
ولعل هذا بعض ما ألمح إليه رئيس المعارضة، يائير لابيد، في قوله إن "قرار المحكمة العليا يختتم عاماً صعباً من الصراع الذي مزقنا من الداخل وأدى إلى أسوأ كارثة في تاريخنا، وهو مصدر قوة دولة إسرائيل وأساس القوة الإسرائيلية هو أننا دولة يهودية، ديمقراطية، ليبرالية، تحترم القانون، واليوم قامت المحكمة العليا بأمانة بدورها في حماية مواطني إسرائيل، نحن نمنح المحكمة العليا الدعم الكامل".
وفيما يأتي قرار المحكمة العليا، لصيانة الكيان الإسرائيلي من الطموحات الشخصية لزعماء الائتلاف اليميني الحاكم، وكل واحد منهم له أسبابه الخاصة، وخصوصاً نتنياهو، الذي فصّل عبر وزيره في القضاء؛ ياريف ليفين، ذلك القانون ليحميه من لوائح الاتهام الرسمية المقدمة ضدّه، ولا يبدو أن هذه الطموحات تسع الخلفيات البعيدة القريبة لهذا القرار، في ظل هجوم أصحابها الحاد ضد المحكمة العليا، على رغم أنه صدر بأغلبية كامل هيئتها، وهو ما يجعل مضاعفات هذا القرار تتجاوز قضية العدل الدولية، لأن وزير الأمن بن غفير، ومعه وزير المالية سموتريتش، على سبيل المثال، يثقان بأن هناك قوى دولية تقف خلف "إسرائيل"، على رغم أنهما، ومعهما نتنياهو، لطالما سارعوا إلى رفض التدخلات الأميركية في تحويل مسار الحرب على غزة، نحو كثافة نارية أقل، انطلاقاً من "السيادة واستقلالية القرار الإسرائيلي".
لا يظهر أن قرار المحكمة العليا ضد التغلّب عليها، سيحقق طموحات لابيد بشأن جَسْر الشرخ العميق، والذي نشأ بين مكونات الشارع الإسرائيلي، فما وقع لم يكن لعبور السابع من أكتوبر أن يردمه، في ظل انجراف اليمين الحاكم إلى خلق قوانين تُقصي الرقابة القضائية عن قراراته، وبالتالي محاولة البقاء في الحكم أبد الدهر، وخصوصاً إذا أجمعت حكومة الائتلاف اليميني على رفض قرار المحكمة العليا هذا، وهو مستبعد في ظل ميول وزير الحرب يوآف غالانت لمصلحة الجنرال النافذ بيني غانتس، وهما أبرز أعضاء مجلس الحرب الراهن، على نحو يجعل خيارات نتنياهو أحلاها مرّ، وبالتالي دخول الكيان الإسرائيلي مزيداً من التخبط، في ظل طغيان العامل الشخصي، الأمر الذي يجعله عرضة لقرارات غير محسوبة تدفعه نحو المجهول.