الفلسطينيون يعون دورهم
الحقد الصهيوني على عرب فلسطين يشمل كل الفلسطينيين من كل الأعمار، ولكنه يتصاعد بشكل سافر على أطفالهم، لأن هؤلاء الأطفال أفشلوا رهان الصهاينة الأوائل.
الفتى عامر أبو زيتون أصيب فجر يوم 5 كانون الثاني/يناير برصاصة في رأسه أودت بحياته، أطلقها عسكري صهيوني أثناء اقتحام قوة عسكرية لشرقيّ مدينة نابلس. الفتى في الـ16 من عمره، أي ما زال في مرحلة الطفولة، وهو عند الفلسطينيين يحتسب شهيداً افتدى فلسطين بفتوته، وعند اليهود المُحتلين مجرّد فتى فلسطيني كان سيشكّل خطراً على مستقبل الكيان الصهيوني ولذا وجب قتله. وكل فلسطيني محكوم بالموت في "ثقافتهم".
الصهاينة المؤسسون راهنوا قبل أن تنشأ "دولة" اليهود برعاية بريطانيا على اجتثاث عرب فلسطين من فوق أرضهم، ورميهم إلى بلاد العرب ليذوبوا بين ناسها، وهكذا سيندثرون وتخلو فلسطين منهم، ليهنأ بالعيش في ربوعها من تقذفهم أوروبا متخلصة منهم، وليكونوا بكيانهم رأس جسر لها.
الحقد الصهيوني على عرب فلسطين يشمل كل الفلسطينيين من كل الأعمار، ولكنه يتصاعد بشكل سافر على أطفالهم، لأن هؤلاء الأطفال أفشلوا رهان الصهاينة الأوائل، وتحديداً من أسسوا الكيان الصهيوني برعاية بريطانية.
رفع الصهاينة شعاراً لهم يجسّد نظرتهم للعرب بشكل عام: العربي الجيّد هو العربي الميت. وساروا وفقاً لشعارهم هذا بتعاملهم مع عرب فلسطين، فاقترفوا مذابح رهيبة قتلوا عبرها كل من طاله رصاص بنادقهم ورشاشاتهم وقذائف مدافعهم، وما تسقطه طائراتهم، ووصل الأمر بهم أن بقروا بطون النساء الفلسطينيات الحبالى عقاباً لهن على حملهن، وتخلّصاً من الأجنّة في أرحامهن، وهذا حدث في مذبحة دير ياسين وغيرها من المذابح التي لا تحصى ولا تعدّ.
في مطلع هذا العام قتل جنود الصهاينة الطفل الفلسطيني آدم عيّاد من مخيم الدهيشة، وهو أول مخيّم عرفته في حياتي وعشت فيه مع أسرتي من العام 1949 وحتى العام 1952 وانتقلت بعده إلى مخيّم النويعمة جار أريحا.
قتل جيش الاحتلال فؤاد محمد عابد من قرية كفر دان –جنين، وكأن وزارة الاحتلال برئاسة المجرم نتنياهو التي تعزّزت بمجرمين يوصفون بالمتطرفين، في مقدمتهم بن غفير وسموتريتش، وكأن قادة الكيان الصهيوني الذين سبقوهم اتصفوا بالاعتدال، وهؤلاء فقط المتطرفون!
هؤلاء الصهاينة، قدماء وجدداً، مغتاظون جداً من مقاومة الفلسطينيين، من أنهم أحياء يرفعون راية فلسطين ويقاومون ولا يندثرون، وأنهم بعنادهم ينجبون أجيالاً لا تنسى، ولا تندثر، بل وتولد وهي أمضى عزيمة وأكثر صلابة وخبرة في منازلة المشروع الصهيوني، وأنهم لا يرهبون الموت ولا يخشون جبروت البطش الصهيوني وقسوته ولؤمه، وأنهم بكل ما يفعلونه يوقظون العرب، ويحرّضون الجماهير العربية على مقاومة المشروع الصهيوني.
النبوءة الصهيونية، والمخطط الصهيوني، بالقضاء على جيل النكبة، وبمحو ذاكرة ما بعده من الأجيال الفلسطينية، كي يهنأ العيش للصهاينة على أرض فلسطين... فشلت تماماً، فالذاكرة الفلسطينية لا تنسى، والفلسطينيون يشحذونها ويثرونها ويغنونها بالمزيد من الخبرات، وهم رغم المذابح المتلاحقة تزداد أعدادهم لأن نساء الفلسطينيين لا يؤمن بتحديد النسل، وهن يرين أن من ينجبنهم سيواصلون حمل الراية وسينخرطون في ميدان المقاومة لتحرير فلسطين، لأنهم يولدون عشّاقاً للحريّة.
مأزق الصهاينة يتجلّى في أنهم لم يتوقّعوا ما كان ينتظر مشروعهم، ولا ما سيواجهه، ولا قدرات وطاقات وعزيمة عرب فلسطين، ولا خبراتهم المتراكمة التي يتوارثونها.
للفلسطينيين خصوصية امتلكوها من خصوصية فلسطين، من موقع فلسطين كقلب للوطن العربي يصل بين المشرق والمغرب، ولهم خصوصية تراكمت من معارك الصراع على أرضهم التي استهدفت أمتهم، والتي امتدت قرابة 200 عام احتلالاً "فرنجياً" غربياً... واندثرت وزالت ببطولات الأمة كأنها لم تكن، وهم يباهون بإهانة نابليون بونابرت أمام أسوار عكا، والهزيمة الأولى التي أذاقوها له قبل هزيمته الكبرى في روسيا.
إن توارث عرب فلسطين لدورهم وعظمة تاريخهم وانتسابهم إلى أمة عريقة، وإلى موقعهم الجغرافي الذي يضعهم في مقدمة من يتصدّون لهجمات الأعداء والغزاة، يورث أجيالهم خصائص عظمة وكبرياء الانتماء، بما يترتّب عليها من صلابة الروح والاندفاع إلى ميادين النزال الحضاري الذي يختبر مجدداً، في كل طور، وأمام كل تحد، وتكون خاتمته الفوز الحتمي الذي لا خيار سواه.
العربي الفلسطيني يدرك بوعي ثاقب أنه لا يمكن أن يُعزل عن أمته، ففي هذا عزلته وموته، وفي هذا إفراغه للميدان لكل عدو غاز يقتحم الوطن العربي، وهذا ما لن يكون، رغم الغدر والخيانات والطعن المتواصل لظهره من (أُخوة) لا أخوّة دم معهم فمصالحهم تطغى على الأخوّة، والفلسطيني وهو يعاني لا يتنكّر لأمته ويربي أطفاله على أنه العربي الوفي المخلص الذي لا يكفر بصلات الدم والتاريخ، ويدفع الثمن كاظماً غيظه وألمه.
مع كل مقاوم يسقط في الميدان، ومع كل طفل وطفلة تبكي أرواحنا وتنوح، ولكننا نواصل حبس مظاهر ألمنا كشعب مقاوم لا ييأس، ونواصل معاركنا واثقين أن أمتنا لن تطيل تفرّجها على دم أطفالنا الذين يحمون مستقبل أطفالها، وستندفع إلى الميدان متجاوزة حكّام التبعية لنيل شرف المشاركة في معركة اجتثاث وكنس الصهاينة الذين يحتلون قلب وطننا العربي الكبير.
وأنا أتابع معارك جنين ونابلس وسهول أريحا التي عشت في مخيماتها وكتبت عنها ولها مستلهماً تاريخها العريق، وحارات القدس والخليل، أثق بأن الهوان والذلّ ليسا قدر أمتنا، وأن انتفاضة ملايين العرب وكسرهم للحدود المفتعلة للوصول إلى أرض المعركة الكبرى فلسطين لن تتأبّد، وأن عرب فلسطين سيواصلون قتال عدوهم وإنهاكه وإحباطه رغم تآمر حكّام التطبيع الإبراهيمي، حتى يوم الانتصار الآتي حتماً.
ومن مخيم جنين إلى مخيم عقبة جبر جار أريحا، وإلى مخيماتنا في القطاع، والفوّار جار الخليل، والدهيشة جار بيت لحم، وإلى اليرموك جار دمشق، إلى كل مخيماتنا في الشتات سيواصل الفلسطينيون القتال على ثرى فلسطين في الداخل وعبر الحدود، ولن ييأسوا، بل سييأس عدو أمتنا، ولذا يحقّ لنا أن نُردّد بيقين: فلسطين ستتحرّر، وستعود جسراً يصل بين مشرق الوطن العربي ومغربه. أي بها سيتحقّق تواصل الجغرافيا العربية، وبغير هذا لن تنهض الأمة وتأخذ دوراً تفتقده في زمن التطبيع والتبعية.