الغرب والشرق والصراع على النفوذ في أفريقيا وأميركا اللاتينية
الصراع على استمالة دول أفريقيا وأميركا اللاتينية يبدو حاسماً مع ميل واضح لدى هذه الدول نحو التكتل الأوراسي المتمثل بمنظمة شنغهاي للتعاون ومنظومة البريكس، وهذا ما تم التعبير عنه في رفض دول عالم الجنوب فرض عقوبات على روسيا.
تشكّل الحرب في أوكرانيا محطة مفصلية في التحول من نظام أحادي القطبية إلى نظام متعدد الأقطاب. هذه الحرب ساهمت بشكل كبير في فرز الاصطفافات الدولية، وأظهرت محدودية الهيمنة الغربية على العالم؛ ففيما فرضت الدول الغربية والولايات المتحدة عقوبات على روسيا ودعمت أوكرانيا في مواجهتها، فإن معظم الدول الآسيوية وجميع الدول الأفريقية والأميركية اللاتينية أظهرت ميلاً لتأييد روسيا في هذه الحرب.
روسيا تدير ظهرها للغرب
وبينما يبدو أن روسيا خسرت علاقاتها الاقتصادية مع أوروبا والغرب، فإنها استعاضت عنها بإقامة شراكة مع الصين والهند اللتين تحتضنان 2.7 مليار نسمة، أي ما يفوق 30% من سكان العالم.
كذلك، فإن روسيا تقوم بالانفتاح على دول القارة الأفريقية والأميركية اللاتينية لإقامة علاقات اقتصادية معها. والجدير ذكره أن التحالف بين روسيا والصين يتعمق، وهو ما تجلى في الآونة الأخيرة بزيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى موسكو بعد أيام قليلة على إصدار المحكمة الجنائية الدولية قراراً بإدانة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا، ما فسره الغربيون بأنه دعم صيني لروسيا في مواجهة الغرب.
إضافةً إلى ذلك، سبق أن أقامت روسيا بالتعاون مع الصين منظومة بديلة من المنظومة الغربية في إطار منظمة شنغهاي للتعاون التي انطلقت عام 2001، والتي باتت تضم في عضويتها كلاً من قرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان وكازاخستان والهند وباكستان، إضافة إلى الصين وروسيا.
والجدير ذكره أن عدداً كبيراً من الدول بات يتمتع بعضوية مراقب أو أنه مرشح للعضوية الكاملة مثل إيران. وبالتالي، فإن هذه المنظومة باتت تضم 40% من سكان العالم وما يفوق نصف الناتج المحلي القائم في الاقتصاد العالمي.
وقد زادت روسيا على ذلك بإقامة منظومة بريكس بالشراكة مع الصين، والتي ضمت دولاً مشاطئة للمحيط الهندي والأطلسي والهادئ من جهة الجنوب، مثل الهند وجنوب أفريقيا والبرازيل. ومع الاتهامات الغربية للصين بالوقوف مع روسيا في تحالف يتعمق أكثر فأكثر مع مرور الوقت، فإن حالة الاستقطاب باتت قوية جداً بين محور أطلسي يضم الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزلندا وأوروبا الغربية، في مواجهة محور أوراسي يضم الدول الأعضاء في منظمة شنغهاي للتعاون، ومعها الدول الأعضاء في البريكس.
الغرب يفقد هيمنته على عالم الجنوب
في حالة الاستقطاب هذه، فإن الصراع على استمالة دول عالم الجنوب، أي أفريقيا وأميركا اللاتينية، حاسم مع ميل واضح لدى هذه الدول نحو التكتل الأوراسي المتمثل بدول منظمة شنغهاي للتعاون ومنظومة البريكس، وهذا ما تم التعبير عنه في رفض دول عالم الجنوب فرض عقوبات على روسيا، وإصدار مواقف تؤيد موسكو في العملية العسكرية الخاصة التي أطلقتها في أوكرانيا ضد الفاشيين والنازيين الجدد المدعومين من الغرب.
في ما يتعلق بأميركا اللاتينية وأفريقيا، فإن تاريخ العلاقات السيئة بين دولها والولايات المتحدة، وفرض الأخيرة هيمنتها على القارة الأميركية الجنوبية خلال القرن العشرين، وتدخلها في سياساتها ودعمها أنظمة ديكتاتورية فيها ونهبها خيراتها عبر شركاتها العابرة للقومية، كل هذا يجعل دول أميركا اللاتينية وأفريقيا تبدي عداء للسياسات الأميركية الغربية في العالم، خصوصاً بعد وصول قادة يساريين معادين للإمبريالية الأميركية في معظمها.
وترى دول أميركا اللاتينية وأفريقيا في صعود القوى الأوراسية في مواجهة الهيمنة الأميركية الغربية فرصة لها لتوسيع هامش استقلاليتها عن الولايات المتحدة والغرب التي تحث هذه الدول على الوقوف في صفها، في حين أنها لا تقف إلى جانبهم في الأوقات الحرجة، كما حصل خلال أزمة جائحة كورونا، حين لم تقدم الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية أي مساعدة تذكر لهذه الدول، فيما قامت الصين وروسيا بتقديم العون للكثير من هذه الدول مجاناً.
وما يزيد الطين بلة في علاقة الغرب مع عالم الجنوب هو محاولة فرض منظومة قيمه التي تتعارض مع منظومة القيم في أميركا اللاتينية وأفريقيا، وخصوصاً بعد ميل الغرب إلى اعتماد قيم أكثر ليبرالية في أنظمة الحكم وفرضه رؤية أحادية لحرية التعبير وحقوق الإنسان، وصولاً إلى حقوق المثليين، والتي تتحفظ عليها معظم دول الجنوب. ويتعاطى الغرب بتعال وأبوية مفرطة مع هذه الدول، ما يجعلها تنفر منه وتميل أكثر نحو الدول الأوراسية.
أوراسيا تستميل عالم الجنوب
في المقابل، فإن الصين وروسيا تسعيان لاستمالة دول أميركا اللاتينية وأفريقيا عبر اعتمادهما سياسة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وعبر إطلاق استثمارات وتقديم قروض مالية بشروط أفضل بكثير من تلك التي يقدمها البند الدولي وصندوق النقد الدولي اللذان يعتبران أدوات للهيمنة الأميركية والغربية.
وتتركز الاستثمارات الصينية في الدرجة الأولى، والروسية في الدرجة الثانية، في البنى التحتية في هذه الدول، ما يجعلها تدخل في إطار التنمية المستدامة خلافاً للقروض الغربية التي كان معظمها يذهب لتمويل الاستهلاك الذي يقوم على شراء السلع الغربية. وقد تحولت الصين التي تحتضن 1.4 مليار نسمة - وهو ما يجعلها سوقاً استهلاكية ضخمة - إلى سوق جاذبة للسلع الواردة من أفريقيا وأميركا اللاتينية.
وعلى صعيد منظومة القيم، فإن العالم الأوراسي يبدو أكثر انسجاماً مع ما ينادي به، فهو لا يتدخل بشؤون الدول الأفريقية والأميركية اللاتينية الداخلية، ولا يقدم منظومة قيم ليبرالية تتعارض مع القيم المحافظة لمعظم هذه الدول، كما أنه لا يتعاطى بفوقية وعجرفة معها، وخصوصاً أنه لا يمتلك تاريخاً استعمارياً بالهيمنة على هذه الدول، بل إن الصين وروسيا، في زمن الاتحاد السوفياتي، أدتا دوراً محورياً في تحرر دول أفريقيا من الاستعمار القديم، ودعمتا دول أميركا اللاتينية في مواجهة الهيمنة الغربية.
وتدعم الصين وروسيا مطالب دول الجنوب بإعادة هيكلة النظام الدولي لتمثيل أكثر عدالة لدول العالم عبر إعادة هيكلة الأمم المتحدة لجهة منح كل من أفريقيا وأميركا اللاتينية مقعداً دائماً في الأمم المتحدة، على غرار المقعد الدائم الذي تتمتع به كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين.
كذلك، فإن روسيا والصين تقدمان بديلاً من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، حيث لا تتمثل دول الجنوب إلا بشكل هامشي جداً. ويتمثل هذا البديل عبر بنك التنمية الذي تم إطلاقه في قمة ريو دي جانيرو في العام 2014 برأس مال قيمته 100 مليار دولار.
آفاق الصراع
في ظلِّ عدم قدرة الغرب على حسم الصراع لمصلحته في أوكرانيا، وبالتالي عدم قدرته على كسر روسيا، وفي ظل صعود القدرات الصينية الاقتصادية، فإن آفاق بقاء الهيمنة الغربية على العالم تبدو مستحيلة. وبالتالي، فإنّ الحلّ بالنسبة إلى الغرب هو في الدرجة الأولى بالتوصل إلى تسوية مع الدول الأوراسية حول صيغة جديدة للنظام الدولي تقوم على تخلّيه عن محاولة فرض قيمه الليبرالية على العالم وقبوله بعلاقات سياسية واقتصادية أكثر عدالة لجهة أخذ مصالح الدول الأوراسية ودول الجنوب في الحسبان.
هذا ما لمسه الأوروبيون وتجلّى في الانفتاح الفرنسي على الصين، وخصوصاً عبر زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون الأخيرة إلى الصين وتصريحاته التي تأخذ بالاعتبار المصالح الصينية وجولاته الأفريقية المتكررة لإعادة التأسيس لنمط جديد من العلاقات بين فرنسا والدول الأفريقية. كذلك، تجلّى هذا في جولة نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس على الدول الأفريقية، في محاولة لتحسين العلاقات مع بعض هذه الدول، وفي الجولة المرتقبة لوزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك إلى القارة السمراء.
وفي ظل الصراع بين الغرب والدول الأوراسية، يبدو أنَّ من سيحسم الصراع على النفوذ في عالم الجنوب هو من ستكون له اليد الطولى في النظام العالمي الجديد في القرن الحادي والعشرين.