الغرام التركي - الإسرائيلي من جديد.. من هو العدو؟

يبدو واضحاً أنّ "إسرائيل" ستبذل كل ما في وسعها لكي يكون تحالفها هذه المرة مع أنقرة استراتيجياً، ومن دون رجعة، وتحت حكم الإسلاميين.

  • مساعي إردوغان جاءت للمصالحة مع مصر والسعودية والإمارات كمبرّر لمصالحته مع
    مساعي إردوغان جاءت للمصالحة مع مصر والسعودية والإمارات كمبرّر لمصالحته مع "إسرائيل"

الرئيس الإسرائيلي الحالي إسحاق هرتسوغ هو نجل الرئيس الإسرائيلي السادس (1983-1993) حاييم هرتسوغ، الذي هاجر إلى فلسطين من إيرلندا الشمالية عام 1935، لينضم إلى منظمة "هاغانا" الإرهابية ويقتل الشعب الفلسطيني، وبعدها أصبح ضابطاً في جيش الاحتلال الإسرائيلي، فشارك في كل الحروب الإسرائيلية - العربية بعدما ترأس قبلها جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (أمان). 

حاملاً تاريخ والده الإرهابي الأسود، يقوم هرتسوغ الابن بزيارته "التاريخية" لأنقرة بعد ثلاثة اتصالات أجراها معه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان منذ أن تم انتخابه رئيساً للكيان العبري، وفي المرة الأخيرة ليعزيه بوفاة والدته، وهي من يهود الإسكندرية. 

تأتي الزيارة إثر قطيعة دامت أكثر من 13 عاماً، بعد أن شنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي هجومه على سفينة مرمرة للإغاثة الإنسانية عندما كانت في طريقها إلى غزة نهاية أيار/ مايو 2010، فقتلت عشرة من المواطنين الأتراك. وشهدت العلاقات التركية - الإسرائيلية قبلها وبعدها سلسلة من التوترات والتناقضات، بسبب مساعي أنقرة بين الحين والحين للتودّد إلى تل أبيب، وكان سلاح الأخيرة ضد تركيا دائماً هو منظمات اللوبي اليهودي في أميركا.

هذه المنظمات هي التي منحت عامي 2004 و2005 الرئيس إردوغان أوسمة "الشجاعة السياسية"، على خلفية رغبته في تطوير العلاقة مع "إسرائيل"، وزيارته للقدس، ولقائه هناك مع أرييل شارون الذي رحّب به قائلاً: "أهلاً بك في عاصمة دولة إسرائيل الأبدية". وشجّعت هذه الأوسمة إردوغان على دعوة شمعون بيريز إلى أنقرة في الـ 9 من كانون الثاني/ يناير 2008، ليلقي خطابه في البرلمان التركي (للمرة الأولى في تاريخ تركيا)، وبعدها للتوسط (نيسان/ أبريل 2008) بين "إسرائيل" وسوريا، فغدر به رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت عندما أمر جيشه بشنّ هجوم عنيف على غزة في الـ 27 من كانون الأول/ ديسمبر 2008، على الرغم من إبلاغ إردوغان له أن الرئيس الأسد مستعد للسلام مع "إسرائيل". 

وجاء ردّ إردوغان على الموقف الإسرائيلي هذا في دافوس عندما قال لشمعون بيريز (كانون الثاني/ يناير 2009): "إنكم قتلة ومجرمون تتقنون عملية القتل جيداً".

وجاءت أحداث "الربيع العربي" لتلقي بظلالها ليس فقط على تطورات العلاقة التركية – الإسرائيلية، بل على مجمل المعادلات الإقليمية والدولية، لما لتل أبيب وأنقرة من علاقة مباشرة وغير مباشرة بكل ما عانت وما زالت تعاني منه سوريا. فمع استمرار الدعم التركي لجميع الفصائل المسلحة في الشمال السوري، ودفاعها عن إدلب، تستمر تل أبيب بدورها في عدوانها المتكرر منذ 2011 على العديد من المناطق السورية، بحجة الوجود الإيراني المسلح فيها، وبعد أن عالجت جرحى المجموعات الإرهابية في مستشفياتها، وقامت بإجلاء 800 من عناصر منظمة الخوذ البيضاء من الجنوب السوري إلى "إسرائيل" ومنها إلى الأردن في الـ 22 من تموز 2018. ثم أحدث (11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019) خبر العثور على جثة ضابط الاستخبارات البريطانية جيمس مرسييه مقتولاً بالقرب من منزله في إسطنبول، وهو مؤسّس منظمة الخوذ البيضاء، مفاجأة للجميع، مع التذكير بتدريب عناصرها في تركيا. 

ولم تمنع أحداث سوريا أنقرة من الاستمرار في حوارها المباشر وغير المباشر، سراً كان أو علناً، مع تل أبيب، وعلى مستويات مختلفة، لإثبات رغبتها في المصالحة معها، على الرغم من كل الذي كان يقوله إردوغان ضد "إسرائيل"، وكان يصفها بدولة العصابات الإرهابية، بعد كل عدوان تقوم به ضدّ غزة. وجاء اعتراف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب (الـ 6 من كانون الأول/ ديسمبر 2017) بالقدس "عاصمة لإسرائيل ويهود العالم"، ليدفع إردوغان إلى شنّ هجوم عنيف ضد تل أبيب وحكامها، بعد أن فشل، بصفته رئيس القمة الإسلامية، في الحصول على إجماع عربي وإسلامي، خلال مؤتمرين في إسطنبول، حول الموضوع. 

ولم يتذكر إردوغان أنه لم يستخدم حق الفيتو ضد انضمام "إسرائيل" بصفة مراقب إلى حلف الأطلسي في أيار/ مايو 2016، كما لم يستخدم حق الفيتو ضد انضمامها إلى منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OECD في أيار/ مايو 2010. 

وجاءت مساعي الرئيس إردوغان اعتباراً من أواسط 2020 للمصالحة مع مصر والسعودية والإمارات كمبرّر لمصالحته مع "إسرائيل" التي هاجمها، ومعها الإمارات، أعنف هجوم، بعد توقيعهما على "الاتفاقية الإبراهيمية " في أيلول/ سبتمبر 2020. ولم يمنعه ذلك من الاستعجال في المصالحة أوّلاً مع الإمارات، وتبادل الزيارات مع وليّ عهدها محمد بن زايد، بعد أن تأخر هرتسوغ في تلبية دعوته لزيارة أنقرة، وعلى الرغم من استقباله (22 كانون الأول/ ديسمبر الماضي) لمجموعة من حاخامات يهود لعبوا دوراً مهماً في فتح صفحة جديدة بين تركيا و"إسرائيل"، وهو ما أسهم فيه الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف والأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وعلاقاتهما جيدة مع إردوغان وحكام تل أبيب الذين نجحوا في إقامة تحالفات جديدة مع السودان والمغرب، وتطورت علاقات إردوغان معها أيضاً خلال الفترة الماضية. 

ومع انتظار الكشف عن النتائج المحتملة لمباحثات هرتسوغ في أنقرة، يبدو واضحاً أنها ستفتح صفحة جديدة في العلاقات الثنائية بانعكاساتها على المنطقة عموماً. ويتوقع المراقبون للرئيس إردوغان أن يزور تل أبيب قريباً، بعد تفعيل الحوار المباشر على جميع المستويات، وفي جميع المجالات. فقد بات واضحاً أن أنقرة ستغلق باب العداء لـ"إسرائيل" من الآن فصاعداً، كما أغلقت ملف سفينة مرمرة في المحاكم التركية والدولية، بعد أن تبرّعت تل أبيب بعشرين مليون دولار لعائلات الضحايا الأتراك، وفي الوقت الذي كانت فيه علاقات أنقرة الاقتصادية والتجارية تسجل أرقاماً قياسية طيلة السنوات الماضية، إذ كان البترول الأذربيجاني والكردي العراقي يصل ميناء جيهان التركي ومنه ينقل إلى ميناء حيفا. ويقول الإعلام التركي إن السفن التي يملكها نجل الرئيس إردوغان ونجل رئيس الوزراء السابق بن علي يلدرم كانت تقوم بنقل هذا البترول. في موازاة ذلك، كانت قنوات الحوار مفتوحة دائماً بين أجهزة الاستخبارات التركية والإسرائيلية، وهو ما أعلنه إردوغان وتحدث عنه الإعلام التركي والإسرائيلي بإسهاب، وخاصة خلال الفترة الأخيرة، من دون أن يكون واضحاً من هو المستهدف من هذا الحوار والتعاون، وذلك خلافاً لقاعدة كوراجيك الأميركية التي سمح إردوغان بإنشائها شرق البلاد نهاية 2011، ومهمّتها التجسّس على التحركات العسكرية الإيرانية، وإبلاغ تل أبيب بأي صاروخ إيراني قد يستهدفها.

وليس واضحاً إذا ما كان الطرفان، التركي والإسرائيلي، سيتفقان على قاعدة عمل مشترك ضد الأعداء المشتركين، وكيف، وهم في هذه الحالة الرئيس بشار الأسد، وكل من روسيا وإيران اللتين تدعمانه، ولو بدرجات متفاوتة. 

وسينجلي هذا الموضوع أكثر خلال الأيام القليلة المقبلة، بعد انتهاء الحرب الأوكرانية (بانعكاساتها على علاقات موسكو مع أنقرة ومع تل أبيب) وبعد العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، والأهم من كل ذلك الموقف المحتمل للدول العربية التي مع استمرار عدائها وتآمرها سوف تجد دمشق نفسها بين فكّي الكماشة التركية-الإسرائيلية. ولن تتردد واشنطن حينذاك، من حيث هي موجودة شرق الفرات، في استخدام هذه الكماشة كسلاح فعّال ضد الرئيس الأسد وكل من معه من الذين يمثّلون خطراً على "إسرائيل". ويبدو واضحاً أنها ستبذل كل ما في وسعها كي يكون تحالفها هذه المرة مع أنقرة استراتيجياً، ومن دون رجعة، وتحت حكم الإسلاميين.

وهذا ما تنبّأ به الزعيم الإسلامي الراحل نجم الدين أربكان منذ سنوات، عندما اتّهم حزب العدالة والتنمية والرئيس إردوغان، وفي أكثر من مقابلة تلفزيونية، "بخدمة الإمبريالية والصهيونية، بعد أن تحوّل بسياسته السرية والعلنية إلى أداة طيّعة في يدها"!

ويبقى الرهان، ولو عاطفياً، على ردود فعل الإسلاميين (حماس بالدرجة الأولى) في العالم العربي وباقي دول العالم تجاه موقف الرئيس إردوغان الجديد، فهم الذين بايعوه بسبب تصريحاته النارية ضد "إسرائيل" والصهيونية، وهم الذين سيباركون له، وقبل الآخرين، غرامه الجديد بـ"إسرائيل".

وكانت أنقرة العاصمة الإسلامية الأولى التي اعترفت (آذار/ مارس 1949) بقيام كيان الاحتلال، كما كانت العاصمة الإسلامية الأولى التي استضافت (آب/ أغسطس 1958) رئيس وزرائه بن غوريون الذي بحث مع رئيس الوزراء التركي آنذاك عدنان مندريس "تفاصيل التنسيق والتعاون ضد العدو المشترك"، وكان آنذاك سوريا ومصر المدعومتين من الاتحاد السوفياتي، وكأن التاريخ يكرّر نفسه الآن، ولو بتسميات أخرى. 

حلف الناتو يحاول التمدد باتجاه الشرق قرب حدود روسيا، عن طريق ضم أوكرانيا، وروسيا الاتحادية ترفض ذلك وتطالب بضمانات أمنية، فتعترف بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، وتطلق عملية عسكرية في إقليم دونباس، بسبب قصف القوات الأوكرانية المتكرر على الإقليم.