الغابون: من صناديق الانتخابات إلى "الانقلاب"

على عكس الانقلابات التقليدية، باتت الانقلابات الحاصلة من ضباط الجيش، وتحديداً الحرس الرئاسي، تحدث بهدوء، مدعومة بتأييد شعبي، ومتوافقة في الدوافع والمبررات. 

  • الغابون: من صناديق الانتخابات إلى الانقلاب
    الغابون: من صناديق الانتخابات إلى الانقلاب

أعلنت مجموعة عسكرية في الغابون صباح 30 آب/أغسطس الجاري، في بيان تلي عبر محطة "غابون 24"، استيلاءها على السلطة، وإغلاق حدود البلاد حتى إشعار آخر، ووضع الرئيس علي بونغو قيد الإقامة الجبرية بعد ساعات قليلة من إعلان لجنة الانتخابات فوزه بولاية رئاسية ثالثة، في حين خرجت في شوارع العاصمة ليبرفيل تظاهرات مؤيدة للانقلاب.

وشملت المؤسسات التي أُعلن حلّها الحكومة ومجلس الشيوخ والجمعية الوطنية والمحكمة الدستورية ولجنة الانتخابات. وبعد انقلاب النيجر الشهر الماضي، أصبحت الغابون الدولة الثامنة التي تشهد انقلاباً عسكرياً في أفريقيا منذ العام 2020.

مبررات "الانقلاب" في البيان الأول

قرأ البيان الأول من القصر الرئاسي ضابط برتبة عقيد، ووقفت خلفه مجموعة من الضباط، بينهم عناصر من الحرس الجمهوري المكلف بحماية الرئاسة، فضلاً عن عناصر من الجيش والشرطة.

وجاء في البيان: "نحن قوات الدفاع والأمن المجتمعة ضمن لجنة المرحلة الانتقالية وإعادة المؤسسات، قررنا باسم الشعب الغابوني الدفاع عن السلام… من خلال إنهاء النظام القائم"، وأضافوا: "لهذه الغاية، ألغيت الانتخابات العامة التي جرت في 26 أغسطس/آب 2023، فضلاً عن نتائجها".

وبرّر الضباط انقلابهم بأن الانتخابات افتقرت إلى المصداقية، وأن نتائجها باطلة، مشددين على أنهم يمثلون جميع قوات الأمن والدفاع في هذا البلد الغني بالنفط، وأكدوا أنهم يتحدثون باسم "لجنة المرحلة الانتقالية وإعادة المؤسسات".

وانتقد الضباط إدارة الرئيس بونغو والأساليب "التي قد تدفع البلاد إلى الفوضى"، ورأوا أن تنظيم الانتخابات "لم يحترم شروط اقتراع يتمتع بالشفافية والمصداقية ويشمل الجميع، كما كان الشعب الغابوني يأمل".

وحمل مئات الجنود في الغابون على أكتافهم رئيس الحرس الرئاسي في الغابون برايس أوليغي نغويما، بعد ساعات من إعلان ضباط متمردين عزل الرئيس علي بونغو، بحسب صور بثها التلفزيون الرسمي. وتم عرض اللقطات التي أظهرت الجنود وهم يهتفون: "أوليغي الرئيس" بشكل متكرر.

 وأظهرت الصور ومقاطع الفيديو انتشار قوات من الجيش في شوارع العاصمة ليبرفيل، واحتشاد المتظاهرين حولهم، مرددين هتافات تؤيد خطوة الضباط. ووُضع رئيس الغابون علي بونغو "قيد الإقامة الجبرية" محاطاً بعائلته وأطبائه، فيما أوقف أحد أبنائه بتهمة "الخيانة العظمى".

الغابون من صناديق الانتخاب إلى "الانقلاب"

أعلنت لجنة الانتخابات في 30 آب/أغسطس الجاري فوز الرئيس علي بونغو بولاية ثالثة في الانتخابات، وحصوله على 64.27% من الأصوات، بعد اقتراع شهد تأجيلات وطعنت المعارضة في نتائجه. وقال رئيس لجنة الانتخابات ميشيل ستيفان بوندا إن المرشح ألبرت أوندو أوسا، منافس بونغو الرئيسي، جاء في المركز الثاني بحصوله على 30.77%.

وتحدّث المرشح المنافس أوندا أوسا عن "عمليات تزوير أدارها الرئيس بونغو" قبل ساعتين من إغلاق مراكز الاقتراع، مؤكداً فوزه في الانتخابات، مطالباً الرئيس بونغو "بتنظيم تسليم السلطة من دون إراقة دماء". ورفض فريق بونغو مزاعم أوندو أوسا بحدوث مخالفات انتخابية. 

شهدت الغابون تصاعد التوتر جراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي أجريت في غياب مراقبين دوليين. وقطعت خدمة الإنترنت وفرض حظر التجول ليلاً في جميع أنحاء البلاد، في إطار إجراءات اتخذتها الحكومة قبل إغلاق مراكز الاقتراع، للحيلولة دون "نشر أنباء كاذبة" وحصول "أعمال عنف" محتملة. وبلغت نسبة المشاركة في الاقتراع 56.65%، وفقاً لما أعلنته لجنة الانتخابات. 

انتهاء نصف قرن من حكم بونغو

عقب إعلان الانقلاب، ظهر الرئيس المعزول علي بونغو في تسجيل مصور من مقر إقامته الجبرية، حيث وجه رسالة إلى "كل العالم والأصدقاء للتحرك" ضد من قاموا باعتقاله. وقال إنه موجود في مقر إقامته ولا يدري ما يحدث"، وأضاف أن ابنه محتجز في مكان ما، وأن زوجته "مفقودة". وبإعلان الانقلاب في الغابون، ينتهي حكم عائلة بونغو الذي استمر أكثر من نصف قرن.

ويرأس بونغو (64 عاماً) الغابون منذ 14 عاماً، وذلك بعد قضاء والده عمر بونغو 41 عاماً في الحكم منذ 1967 حتى وفاته عام 2009، وتولى ابنه علي الحكم بعده، وأصر على الترشح للمرة الثالثة رغم مرضه بعد إصابته بجلطة دماغية عام 2018.

عيّنه والده وزيراً لخارجية الغابون عام 1989، ولم يكن يتجاوز حينها 22 عاماً، ثم تسلم وزارة الدفاع حتى العام 2009؛ تاريخ وفاة والده، ليصبح بعدها رئيساً للغابون حتى حدوث الانقلاب 30 آب/أغسطس الجاري.

وأجريت انتخابات رئاسية في الغابون حصل فيها بونغو على تفويض لإكمال مسيرة والده، لكن الاحتجاجات سرعان ما اندلعت من جانب المعارضة أواخر عام 2009، رفضاً لصعوده إلى السلطة، وسقط فيها العديد من المحتجين بين قتلى ومصابين، إضافة إلى فشل الطعون القانونية في نتائج الانتخابات.

وعام 2016، أجريت انتخابات في الغابون، وفاز فيها بونغو مرة أخرى بفارق ضئيل، وأعلن حينها حزب المعارضة الأكبر الذي نافس في الانتخابات فوز مرشحه جان بينغ، عقب التشكيك في النتائج الرسمية، وعادت الاحتجاجات الواسعة على النتائج في عموم الغابون.

وعام 2018، تعرض بونغو لوعكة صحية خلال رحلة إلى الرياض لحضور مؤتمر اقتصادي. ورغم رفض مستشاريه إعلان الحالة الصحية للرئيس، فإنَّه خرج في تسجيل مصور من المغرب لاحقاً لدرء الشائعات بشأن تدهور حالته، رغم حديث تقارير عن إصابته بجلطة دماغية. وبعد غيابه لفترة طويلة، قررت حكومة الغابون تعيين بيير كلافر ماغانغا رئيساً مؤقتاً لضمان استمرار المنصب وعدم شغوره.

وفي 7 كانون الثاني/يناير 2019، حاول جنود متمردون الانقلاب على الرئيس علي بونغو عندما كان في المغرب يتعافى من سكتة دماغية، لكنهم فشلوا. ونجحت المجموعة العسكرية من ضباط الجيش الغابوني في السيطرة على مبنى الإذاعة الوطنية، ومنعوا إذاعة كلمته بمناسبة العام الجديد، وأعلنوا تشكيل مجلس وطني للإصلاح وسط إطلاق نار في العاصمة ليبرفيل. 

وبعد بضع ساعات، أُلقي القبض على الضباط المتورطين، وأعلنت الحكومة في دولة الغابون فشل محاولة الانقلاب، لتُعاد الكرة في 2023 مرة أخرى وتنجح.

ردود الأفعال الدولية على "انقلاب الغابون"

توالت ردود الأفعال الدولية على الانقلاب في الغابون، وصدر أولها عن الاتحاد الأوروبي، إذ قال مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إن وزراء دفاع دول التكتل سيناقشون الموقف في الغابون، واصفاً ما يحدث في غرب أفريقيا بأنه مشكلة كبيرة لأوروبا.

وأضاف في كلمة خلال اجتماع وزراء دفاع دول الاتحاد الأوروبي في طليطلة في إسبانيا: "إذا تأكد ذلك، فسيكون انقلاباً عسكرياً آخر يزيد من الاضطرابات في المنطقة بأكملها".

بدوره، أعلن الكرملين أنه يتابع الوضع في الغابون "بقلق شديد"، فيما يجري انقلاب عسكري في البلاد، وتم وضع الرئيس علي بونغو قيد الإقامة الجبرية. وقال الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف: "الوضع في الغابون يثير قلقاً شديداً، ونحن نراقب ما يحصل من كثب". 

وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية ماريا زاخاروفا إن روسيا تتابع "بقلق" تلك التطورات، وتتطلع إلى عودة الاستقرار. ونقلت وكالة "تاس" للأنباء عن السفارة الروسية في الغابون أن الوضع هادئ في ليبرفيل، ولا يوجد تهديد للسفارة.

أممياً، دان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بشدّة ما وصفها "بمحاولة الانقلاب الجارية" في الغابون، ودعا قادة الانقلاب في الغابون إلى الدخول في محادثات والحفاظ على الاستقرار وضمان احترام سيادة القانون.

أفريقياً، قال رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فكي إنه "يدين بشدة" ما وصفها بمحاولة انقلاب في الغابون، ودعا في بيان إلى ضمان سلامة الرئيس علي بونغو وعائلته. وقال رئيس مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي ويلي نياميتوي إنه عقد اجتماعاً طارئاً مع بوروندي والسنغال والكاميرون لتحليل الوضع في الغابون بعد التطورات الأخيرة.

وقال المتحدث باسم الرئيس النيجيري بولا تينوبو، الذي ترأس بلاده المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إيكواس"، إنَّ الرئيس يعمل من كثب مع رؤساء دول أفريقية أخرى بشأن سبل الرد على محاولة الانقلاب في الغابون.

وفي واشنطن، أعلن البيت الأبيض أنه يتابع الوضع في الغابون من كثب، معتبراً أن "ما يحدث أمر يبعث على القلق"، وأضاف في بيان: "سنواصل التركيز على العمل مع شركائنا الأفارقة وشعوب القارة للمساعدة في دعم الديمقراطية"، مؤكداً أن جميع طاقم السفارة الأميركية في الغابون والقوات الأميركية الموجودة هناك بأمان.

ودعت الخارجية الصينية الأطراف المعنية في الغابون "للعودة إلى النظام الطبيعي فوراً" وضمان سلامة الرئيس علي بونغو. وقال الناطق باسم وزارة الخارجية وانغ وينبين في تصريحات صحافية: "تتابع الصين من كثب تطورات الوضع في الغابون، وتدعو الأطراف المعنية إلى العمل لمصلحة الشعب الغابوني والعودة فوراً إلى النظام وضمان الأمن الشخصي لعلي بونغو".

فرنسا دانت الانقلاب في الغابون، وقال متحدث باسم الحكومة الفرنسية: "فرنسا تأمل احترام نتائج انتخابات الغابون". وقالت رئيسة الوزراء الفرنسية إليزابيث بورن في كلمة أمام مؤتمر للسفراء الفرنسيين إن باريس تتابع الوضع في الغابون من كثب، ونصحت السفارة الفرنسية في ليبرفيل مواطنيها في الغابون بالبقاء في منازلهم بسبب الأحداث الجارية.

في سياق متصل، أعلنت شركة التعدين الفرنسية "إراميت" تعليق عملياتها في الغابون عقب تطورات الساعات الماضية. وتملك "إراميت" وحدة كوميلوج لإنتاج المنغنيز في الغابون، وتوظّف نحو 8 آلاف عامل في البلاد. وقد انخفضت أسهم الشركة بنحو 5% عقب قرار تعليق العمليات.

وقالت شركة النفط الفرنسية العملاقة "توتال إنرجيز" إنها حشدت جهودها لضمان سلامة موظفيها وعملياتها في الغابون، وأشارت إلى أن ذلك هو "أولويتها القصوى". وذكرت أن لديها 350 موظفاً في الغابون، وأنها الموزع الرئيسي للمنتجات البترولية في البلاد عبر 45 محطة وقود. 

مفارقات عملاق النفط الأفريقي تحت خط الفقر

يأتي انقلاب الغابون بعد شهر من انقلاب النيجر الذي أزاح الرئيس محمد بازوم. والملاحظ في سلسة الانقلابات التي شهدتها القارة الأفريقية مؤخراً تشابه الحيثيات؛ فعلى عكس الانقلابات التقليدية، باتت الانقلابات الحاصلة من ضباط الجيش، وتحديداً الحرس الرئاسي، تحدث بهدوء، مدعومة بتأييد شعبي، ومتوافقة في الدوافع والمبررات. 

ولا يمكن عزل ما يحدث عن المتغيرات والحسابات الدولية والتموضع الدولي لجهة التمدد أو الانحسار في القارة الأفريقية، وهو ما يرجح تدحرج دول أفريقية أخرى إلى مسار نظرية الدومينو.

 المفارقة أنَّ الغابون توصف بأنها عملاق النفط في أفريقيا، إذ يبلغ إنتاجها من النفط الخام 181 ألف برميل يومياً، وتبلغ صادراتها النفطية 4.6 مليار دولار، ولديها احتياطات نفط خام مؤكدة بملياري برميل.

ويصل إجمالي صادرات البلاد النفطية وغير النفطية إلى 6 مليارات دولار، فيما يبلغ إنتاج الغاز الطبيعي 454 مليون متر مكعب يومياً، واحتياطيات الغاز المؤكدة 26 مليار متر مكعب، وهي من أول منتجي الذهب الأسود في أفريقيا جنوب الصحراء. 

ورغم ذلك، يعيش فرد 1 من أصل 3 تحت خط الفقر، بحسب أرقام أُعلنت أواخر عام 2022، وفق البنك الدولي، وبلغت نسبة الشباب العاطلين من العمل 40%، في بلد تعادل مساحته مساحة المملكة المتحدة، وتغطي الغابات 90% من مساحته، ولا يتجاوز عدد سكانه 2،5 مليون نسمة.

اخترنا لك