الخاسرون فريقان: أين سيتموضع ميقاتي؟
إذا كان الحريري قد دفع ثمن تمسكه بمحاولة استرضاء ابن سلمان فإنَّ ميقاتي يوحي في ما يخصّ سوريا بأنّه يلتقط الإشارات بذكاء، لكن مع بعض التردد.
في وقت يحاول الأميركي تثبيت موقع إقليمي كبير لقطر في أفغانستان، فيما تحاول تركيا تثبيت بعض من توسعها الفوضويّ، بعد أن سبقتها إيران في تحصين حدود نفوذها الهائل الجديد، كان يمكن للسعودية أن تحدّ من خسائر النفوذ على جميع الجبهات انطلاقاً من دمشق، مستفيدة من ثبات عاصمة الأمويين لترميم المكانة التي هدمها طيش العقدين الماضيين بكل حروبهما العشوائية الخاسرة.
والواقع أنَّ الأسابيع القليلة الَّتي سبقت تجديد انتخاب الرئيس بشار الأسد كانت حافلة بالتّسريبات عن انفراج كبير في العلاقة السورية والسعودية، مع شبه جزم بأنَّ من أدى الدور الرئيسي في تمويل شيطنة النظام السوري وتمويل تدمير كلّ ما يمكن تدميره في سوريا هو من سيؤدي الدور الرئيسي في وصل ما انقطع بين القيادة السورية والعالم، وهو من سيموّل المرحلة الأولى في إعادة إعمار سوريا.
لكن سرعان ما أحجمت السعودية، من دون أن يتضح في حينه إذا كان السبب إشارة أميركية أو مجرد سوء تقدير سعودي. ضبابيةٌ بددتها أحداث الأسبوعين الماضيين في ما يخص العلاقات مع سوريا، إذ تبين أن الأميركي مستعجل جداً، وهو لا يمنح السعودية ترف اختيار التوقيت المناسب من جهة، ويفضل أن تؤدي عمان لا الرياض الدور الإقليمي المحوري المتمثل بوصل سوريا من جديد بالعالم.
وإذا كانت الدبلوماسية السورية "عتيقة" في اختيار المفردات وحريصة على مشاعر "الأخوة"، فإنها ستحفظ من دون شك أن عمان كانت أشجع من الرياض حين جدّ الجد، وذهبت أبعد مما كانت دمشق نفسها تتخيّل حين دافعت بكلّ حماسة عن المصالحة مع سوريا، باعتبارها تحقق المصلحة الاقتصادية والأمنية والسياسية الأردنية.
وبالتالي، بدلاً من أن تقود السعودية السلم كما قادت الحرب، فإنها فضلت أن تترك المهمة الصعبة هذه المرة للأردن ومصر، مع العلم أنَّ من يطلع على العلاقة السورية – الأردنية اليوم، والسورية – المصرية، والسورية – الجزائرية، والسورية – التونسية، والسورية – الإماراتية، يتأكَّد أن التأزيم المتواصل إنما ينحصر ببعض الأدوات السعودية في بعض البلدان، كلبنان والعراق، لا أكثر، مع العلم أن اتصال العاهل الأردني بالرئيس السوري كتتويج لعودة العلاقات الأردنية – السورية، يعتبر تفصيلاً صغيراً إذا ما قورن بعودة الأنتربول إلى سوريا، بوصفه تتويجاً لعودة التعاون – العلني – بين الأجهزة الأمنية العالمية والأجهزة الأمنية السورية، مع كلّ ما يسبق ذلك ويتبعه من إسقاط لاتهامات السنوات العشر الماضية لهذه الأجهزة.
ومن الواضح في هذا السياق أنَّ العقل السعوديّ الحاكم لم يقتنع بعد بأن سياسة الترهيب والترغيب (بالتكفيريين والأموال) لم تعد تجديه نفعاً في ميادين المنطقة، وهو يفضّل أن يمضي في الخسارة حتى النهاية، بدلاً من الحد من خسارته عند حدٍّ ما.
وإذا كان هناك من يعتقد قبل بضعة أشهر أن سوريا ستدفع في السياسة ثمناً لترتيب العلاقة السورية – السعودية، فإنّه يرى اليوم أنَّ سوريا تأخذ بالمفرق، سواء مع الإمارات أو مصر أو الأردن أو لبنان، من دون أي مقابل سياسي، ما كان يمكن أن تأخذه بالجملة، وهو ما يفقد بالمناسبة السعودية الكثير من أوراق قوتها على طاولة المصالحة مع سوريا: بدلاً من أن تأتي مع جميع هذه الدول خلفها، ستكون هي التي سارت في ركب المصالحات، وليست صانعتها. بدلاً من أن تواصل تقديم نفسها كمايسترو إقليمي، ها هي الأحداث تبيّن أن الأميركي هو المايسترو الّذي يقول لأغلب هؤلاء: صالح فيصالح، وقاطع فيقاطع.
بدلاً من أن تكون الرياض عرابة فتح المعابر، ها هي المعابر تفتح من دون منّتها. بدلاً من أن تكون المنقذة المالية، ها هو قانون "قيصر" يتكسّر من جهات متعددة، فيما يتضاعف بشكل يومي عديد الطائرات المدنية الهابطة في مطار دمشق، مع العلم أنّ كلّ أجنحة العالم في "إكسبو دبي" كانت في مكان وجناح سوريا في مكان آخر: أقدم أبجديات العالم وأول نوتة موسيقية في العالم وثقافة هزمت بسواعد المقاومين أكبر جيش تكفيري بالعالم.
قبل بضعة شهور، كانت سوريا في أحلك لحظات العزلة في تاريخها، وكان الشعب السوري سيذكر أنَّ السعودية كانت من أوائل "الدول الشقيقة" التي كسرت هذه العزلة، لكن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لم يلتقط اللحظة.
ومن سوريا، مروراً باليمن الذي لا يمر يوماً إلا وتخسر السعودية فيه أكثر، إلى لبنان، لم تفلح جميع التدخلات الغربية مع المملكة لإيقاف الخسارة السريعة للنفوذ عند حد ما، فتدخّلت فرنسا والولايات المتحدة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من فريقهم السياسي، فيما السعودية متمسّكة بنظرية "بطيخ يكسر بعضه" أو "كلهم عند حزب الله"، في وقت يبدو واضحاً لمن يدقّق بالمشهد السياسي أنَّ هناك فريقاً كبيراً مدعوماً مالياً ومعنوياً من السفارة الأميركية يستعدّ لخوض الانتخابات ضد الفريق الصغير الذي ما زال يحظى بدعم السفارة السعودية، ففي "الدوائر المسيحية" لا معركة بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية أو بين التيار وأفرقاء 14 آذار سابقاً أو ما يعرف بالمجتمع المدني اليوم، لأنَّ جمهور التيار في مكان وهؤلاء في مكان آخر؛ إنما المعركة هي بين القوات (المدعومة سعودياً) وأفرقاء 14 آذار سابقاً أو ما يعرف بالمجتمع المدني اليوم (المدعومين أميركياً وفرنسياً)، إذ إنَّ الجمهور الذي يتنافسان عليه هو نفسه، وقاعدتهما الناخبة متداخلة جداً.
وإذا كان سعد الحريري قد دفع ثمن تمسكه بمحاولة استرضاء ابن سلمان حتى النهاية، فإنَّ الرئيس نجيب ميقاتي يوحي حتى الآن من تصريحاته في ما يخصّ سوريا بأنّه يلتقط الإشارات بذكاء، لكن مع بعض التردد. هذا التردد خطير، وما عليه في هذا السياق سوى الاستفادة من التجربة السعوية السابق ذكرها، فما تعتبره سوريا اليوم مكسباً لها على صعيد التواصل والتنسيق، ستبدأ باعتباره تحصيلاً حاصلاً في القريب العاجل، والفارق كبير جداً بالنسبة إلى الدول، بين حاجة أميركية استوجبت كسر قانون "قيصر"، وكرم الأخلاق الأميركي أو صحوة الضمير.
وفي ظلِّ الحاجة الأميركية أو الأردنية أو اللبنانية، تشعر سوريا اليوم بأنها في موقع القوة، رغم حدّة أزمتها الاقتصادية ومعاناة شعبها المعيشية الهائلة، مع العلم أنّ ما يعانيه الأردن اقتصادياً جراء الحرب على سوريا يشبه كثيراً ما يعانيه لبنان، لكنَّ المسؤولين الأردنيين يجاهرون بوجوب ترميم العلاقات الاقتصادية مع دمشق كبند أول في حلّ الأزمات الاقتصادية الأردنية، فيما يكابر المسؤولون اللبنانيون ويعاندون ويتشاطرون ويتذاكون ويتكبرون.
ما سبق لا يقتصر على الرئيس ميقاتي وحده. إذا كان جهاز الأنتربول العالمي قد استعاد صلاته الأمنية العلنية بسوريا، أسوة بأجهزة استخباراتية كثيرة في العالم، فماذا تنتظر الأجهزة الأمنية اللبنانية؟ هل تنتظر قراراً أميركياً يضعها في نظر سوريا في خانة الأدوات الأميركية التي تقول لها واشنطن: صالحي فتصالح أو قاطعي فتقاطع؟ وهل يعلم هؤلاء أنَّ سوريا المنتصرة وسوريا المستقبل ستعاملهم مستقبلاً على هذا الأساس، أياً كانت المناصب السياسية التي يتطلعون إلى شغلها؟ وهي بالمناسبة تُعنى بالموقف الرسمي المعلن، لا بما ينقله مبعوثوهم من رسائل تفضح خبثهم وجبنهم وتلوّنهم. ومن الحكومة، مروراً بالأمن، إلى بعض السياسيين الذين يوهمون أنفسهم بأن سوريا بعد كل ما خبرته من خيانات وغدر ذوي القربى ستكون هي نفسها سوريا قبل هذه الأزمة، فتفتح لهم ذراعيها كما فعلت سابقاً.
في المنطقة فريق انتصر. هذا ثابت راسخ، ولا مجال لتعديله أو التخفيف من وضوحه. وثمة فريق خاسر ينقسم بدوره إلى فريقين؛ الأول موضوعي يتعامل مع خسارته بعقلانية، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه تحضيراً لمعارك مقبلة لاحقة، والآخر انتحاري متهور لا يبالي أبداً بخسارة كلّ شيء.
السؤال الذي يفترض بعدد كبير من اللبنانيين طرحه اليوم هو: مع أيٍّ من الخاسرين تود أن تكون؟ الأردن ومصر والإمارات اصطفتا خلف الأميركي والفرنسي تحت راية الفريق الأول، وليس أمام الرئيس ميقاتي وغيره هامش وقت، وخصوصاً أنَّ سرعة الأحداث استثنائية، ولا شكّ في أن دمشق أقرب وأكثر تأثيراً في الاقتصاد اللبناني من العواصم التي يتنقل بينها، وانتظاره إشارة سعودية هنا يعني تعامل سوريا معه مستقبلاً ودائماً باعتباره الرجل الذي ينتظر الإشارات السعودية، لا شيء آخر.
الاستراتيجية السعودية اليوم مع إيران تحت الطاولة وضد إيران فوق الطاولة، مع الإمارات فوق الطاولة وضد الإمارات تحت الطاولة، مع روسيا والصين ومع الولايات المتحدة في الوقت نفسه، مع سوريا قبل الظهر وضد سوريا بعد الظهر. الاستراتيجية غير الاستراتيجية لا يمكن ميقاتي التعويل عليها لبناء مستقبل سياسيّ.