الحركة الإسلامية ومُعضِلة أطروحة الحكم

التخلّص من معضلة أطروحة الحكم لدى بعض تيارات الحركة الإسلامية يتطلب التحرر من الفهم المغلوط والقراءة المُحرّفة للنص الديني السياسي.

  • التاريخ الإسلامي ليس هو الإسلام، بل هو وعاء الحياة الإسلامية العملية في تطبيقها للإسلام.
    التاريخ الإسلامي ليس هو الإسلام، بل هو وعاء الحياة الإسلامية العملية في تطبيقها للإسلام.

انتصرت حركة طالبان في أفغانستان على الاحتلال الأميركي وحكومته الأفغانية في شهر آب/ أغسطس الماضي، فانتقلت بهذا الانتصار من مرحلة الجهاد والحركة إلى التمكين والحكم. وهُزِم حزب "العدالة والتنمية" في المغرب أمام الأحزاب العلمانية واليسارية في شهر أيلول/ سبتمبر الحالي، فانتقل بهذه الهزيمة من حقبة التمكين والحكم إلى التهميش والإقصاء. 

وكلاهما - الحركة والحزب - قدّم تجربة حكم سابقة مأزومة، ظاهر الأزمة لدى حركة طالبان المنتمية إلى المدرسة الديوبندية التطرف والإفراط، بينما ظاهر الأزمة لدى حزب "العدالة والتنمية" المنتمي إلى مدرسة الإخوان المسلمين التطبيع والتفريط، ولكلٍ من الإفراط والتفريط باطنٌ واحد تكمن فيه معضلة أطروحة الحكم لدى بعض تيارات الحركة الإسلامية بمختلف مدارسها، جوهره الفهم المغلوط والقراءة المُحرّفة لمصادر أطروحة الحكم وإدارة الدولة، وهي: النص الديني، والتراث الفقهي، والتاريخ الإسلامي. 

أساس المعضلة الأول في الفهم المغلوط والقراءة المُحرّفة للنص الديني - قرآناً وسُنّة – الخاص بأطروحة الحكم الإسلامية، وليس في النص الديني نفسه إذا كان قطعي الثبوت والدلالة، ومن أنواع ذلك الفهم والقراءة: القراءة الجزئية المبتورة للنص، التي تعزله عن سياقه الحضاري الشامل، وإطاره الإنساني الكلي، ومقاصد الشريعة الإسلامية، فتأخذ ببعض النصوص الدينية وتترك بعضها في الموضوع الواحد، ولا تستوعب معناه كاملاً، فتهمل روحه ومقاصده. 

والقراءة التبريرية الملتوية للنص، التي يتم بواسطتها لَيّ عنق النصوص الدينية لتوافق وتبرر الواقع السياسي المُناقض للإسلام، إرضاءً لهوى الحكام ومصالحهم، فيصبح النص الديني محكوماً بالواقع لا حاكماً له، وخاضعاً لإرادة أولي الأمر لا موجِّهاً لهم، ومُتغيّراً بتأويلاته ليتأقلم مع أنظمة الحكم لا مُغيرّاً لها. والقراءة الأُحادية القطعية للنص، التي تعتمد على تفسيرات دوغماتية جامدة للنص الديني، يتم منحها قُدسية تضعها في مرتبة النص، وترى فيها اليقين المُطلق، كالنص الديني القطعي الثبوت والدلالة، وتجهل حقيقة أنها مجرد اجتهاد بشري في فهم النصوص الدينية تحتمل أكثر من تفسير أو تأويل. 

وأساس المعضلة الثاني في الفهم المغلوط والقراءة المُحرّفة للتراث الفقهي الخاص بالسياسة الشرعية، التي يتم بواسطتها استدعاء فقه السياسة الشرعية المُتراكم على رفوف أرشيف الزمن الماضي، ومن ثم إسقاطه على عصرنا بغثّه وسمينِه؛ من دون غربلة للجوهري من الهامشي، وانتقاء للثابت من المتغير، واصطفاء للصواب من الخطأ، واختيار للمفيد من الضار... ومن دون تمييز بين تراث فقه السياسة الشرعية الذي وظّف النص ليجعل الواقع مُنسجماً مع الإسلام، وبين الفقه الذي وظّف النص ليجعل الإسلام مُنسجماً مع الواقع السيّئ، وإضفاء الغطاء الشرعي عليه، فشرعن الاستبداد السياسي، والاستغلال الاقتصادي، والظلم الاجتماعي، والفساد الأخلاقي... ومن أمثلة ذلك: شرعنة إمارة المتغلّب وتوريث الحكم للأبناء، وأسقط حق الأمة في اختيار حكامها ونقدهم وعزلهم، وربط الثورة على الاستبداد بالفتنة، وقرن معارضة الظلم بالتمرد، وحصر الشورى بأهل الحل والعقد الموالين للحاكم، وحوّل الشورى من مُلزِمة إلى مُعلِمة. 

وأساس المعضلة الثالث في الفهم المغلوط والقراءة المُحرّفة للتاريخ السياسي الإسلامي، التي يتم فيها أخذ نماذج الحكم التاريخية، ولا سيما تجربة دولة الخلفاء الراشدين كقوالب جامدة وأشكال ثابتة يُصبّ فيها كل نموذج جديد للحكم الإسلامي، باعتبارها مصدراً لفقه السياسة الشرعية، من دون تمييز للنص الديني الإلهي والتجربة التاريخية البشرية، ومن دون الانتباه إلى أنَّ التاريخ الإسلامي ليس هو الإسلام، بل هو وعاء الحياة الإسلامية العملية في تطبيقها للإسلام، قد تقترب منه أو تبتعد عنه نصاً وروحاً بدرجات متفاوتة، لأنه فعل بشري قابل للصواب والخطأ، فلا يجوز تقديسه واعتباره مصدراً للأحكام الشرعية في مجال سياسة الحكم وإدارة الدولة، إلاّ بمستوى الاسترشاد به والتعلم منه، واستخلاص العِبر والدروس المفيدة من أحداثه، واستلهام روح الشجاعة والعزة والكفاح من أبطاله. 

هذه المصادر الثلاثة - النص والتراث والتاريخ - بقدر ما أسهمت في إيجاد أطروحة الحكم الإسلامي، أسهمت في إنتاج مُعضِلة أطروحة الحكم لدى بعض تيارات الحركة الإسلامية، من خلال الفهم المغلوط والقراءة المُحرّفة لهم، تجلّت ذروتها في رؤية النظام السياسي الإسلامي، وأهم مظاهر المعضلة تجاهل جوهر النظام السياسي الإسلامي ومبادئه ومقاصده، والتركيز على شكله وصورته وواجهته، ممثلة في مؤسسة الخلافة الإسلامية، أو الإمامة العُظمى، الشكل الذي أبدعه العقل البشري المسلم بعد عصر النبوة، ليكون وسيلةً للحياة الإسلامية. 

وهذا الشكل السياسي للحكم يستمد شرعيته من كفاءته في: استنباط الحلول الإبداعية من النصوص الدينية، وانتقاء الجوهري المُفيد من تراث فقه السياسة الشرعية، واستخلاص العِبر والدروس من تجارب التاريخ الإسلامي. ويستقي مصداقيته من فعاليته في تطبيق ما في الإسلام من قيم إنسانية، ومبادئ أخلاقية، ومقاصد شرعية. فالشورى – على سبيل المثال – مبدأ إسلامي، ومؤسسة أهل الحل والعقد إحدى وسائل وأشكال تطبيقها، يُمكن أن تُستبدل بمؤسسة البرلمان، والوحدة مبدأ إسلامي، والخلافة إحدى وسائل وأشكال تطبيقها، يُمكن أن تُستبدل بأي مؤسسة توّحد الأمة الإسلامية. 

التخلّص من معضلة أطروحة الحكم لدى بعض تيارات الحركة الإسلامية يتطلب التحرر من الفهم المغلوط والقراءة المُحرّفة للنص الديني السياسي، ويكون ذلك بالتخلّي عن القراءة الجزئية والتبريرية والأُحادية للنص، والتحلّي بالقراءة الكُليّة والثورية والإبداعية للنص، والتحرر من الفهم المغلوط والقراءة المُحرّفة لتراث فقه السياسة الشرعية، والتحلّي بقراءة متجاوزة للهامشي الضار منه نحو الاحتفاظ بالجوهري المفيد منه، وإبداع فقهٍ إنسانيٍ وثوريٍ وإيجابي. والتحرر من الفهم المغلوط والقراءة المُحرّفة للتاريخ الإسلامي، بالخروج من القالب التاريخي للنظام السياسي الإسلامي، مع الاحتفاظ بقيم الحكم الإسلامي ومبادئه ومقاصده، الإنسانية والأخلاقية. 

وإذا تحررنا من تلك القيود الفكرية، نستطيع إبداع أطروحة حكم إسلامية تكون نبراساً يُضيء طريق الأمة نحو حكمٍ رشيد، وسدّاً يمنع احتكار النخبة الحاكمة للسلطة والثروة، وسلاحاً بأيدي الجماهير المستضعفة تنتزع بواسطته خبزها وحريتها وكرامتها، وبغير ذلك ستظل أطروحة الحكم سلاحاً بين النخبة الحاكمة المُترَفة، تسلب الجماهير المستضعفة الفقيرة خبزها وحريتها وكرامتها.