التوقيت الخاطئ
بموازاة التوقيت الخاطئ وتساقط الأقنعة، كان هناك خلل حقيقيّ في القدرة على إقناع الرأي العام بأنَّ "حزب الله" هو المسؤول عن الانهيار الاقتصادي و"كل المآسي".
"انتفاضة 2005" لم تحقّق غايتها. حرب تموز لم تحقّق غايتها. محاولة استنزاف "حزب الله" في سوريا لم تحقّق غايتها. كان لا بدّ من استخلاص العبر. تكثيف ما كان مفيداً، واستثناء كل ما كان سلبياً، والهجوم من جديد. وإذا كانت استراتيجية الأرض المحروقة مستخدمة منذ القدم، فإن الجديد هو إحراق الحجر والبشر، فلا مشكلة أبداً في التضحية بالأقربين قبل الأبعدين، وحرمانهم هم أيضاً من مدخراتهم ووظائفهم وأدويتهم وكل مقومات الحياة، إذا كان ذلك يؤدي إلى إضعاف "حزب الله".
تراهم يندفعون خلف حلمهم الكبير بوطن حقيقيّ صغير. أنهار متفرقة تصبّ في بحر كبير. بحر الناس يحيطه "ديكور" مختلف هذه المرة. الثياب مختلفة، الشعارات، أسماء المجموعات، الألوان، الأناشيد، الهتافات، قرع الطبول، وكل وسائل التعبير، باستثناء مارسيل غانم وسامي الجميل، يبدو كل شيء مختلفاً وجديداً وجميلاً. في 14 آذار/مارس 2005، لم تتغير الوجوه، إنما نُقلت البندقية على عجل بكل بساطة من كتف إلى آخر. أما الآن هنا، فالوجوه تبدو كأنها جديدة. هذه أول العبر الّتي استُخلصت من التجربة السابقة.
وفي تلك التجربة، كان ثمة منصة واحدة ورموز محددة للانتفاضة، بما يسهل الاستهداف السياسيّ والإعلامي. لذلك، العبرة الثانية: لا منصّة واحدة هنا، إنما منصات، مع إشعار كل ناشط، مهما كان مغموراً، بأنه هو الانتفاضة، والانتفاضة هو. ولا بدَّ هنا من تخيّل فريق سياسي واضح المعالم مرئيّ 100%، يواجه فريقاً سياسياً قيادته غير مرئية بالكامل، إذ إنَّ مواجهة المجهول أصعب بكثير من مواجهة خصم واضح ومعروف.
وإذا كانت الانتفاضة السابقة قد استتبعت بتفريخ مجموعة حركات (التجدد الديمقراطي مثلاً) وأحزاب جديدة (اليسار الديمقراطي والكتلة الوطنية مثلاً)، وتيارات ومراكز دراسات ووسائل إعلام أحاطوا بـ"الانتفاضة"، جنباً إلى جنب الأحزاب التقليدية، فإن العبرة الثالثة تمثلت بمضاعفة عدد هذه المجموعات، بعدما تبين أن قدرتها على استقطاب النخب وما تبقى من طبقة وسطى أكبر بكثير من قدرة الأحزاب التقليدية.
والأهم أنها ترضي غرور أكبر عدد ممكن ممن يريدون أن يكونوا "مسائيل". وعليه، بدل الحزب الواحد الذي يتسع لمسؤول واحد، فليكن هناك ألف مجموعة لألف مسؤول، وليتدافعوا في السعي لإثبات أنفسهم. وبدلاً من أن يكون الحزب الاشتراكيّ التقليدي مثلاً، يمكن توزيع بعض من مناصريه الشباب في 3 أو 4 مجموعات تحمل أسماء جذابة جديدة تتجاوز المآخذ التقليدية على الحزب الاشتراكي، للوصول إلى أكبر عدد ممكن من الجمهور، والأمر نفسه في ما يخص "المستقبل" و"القوات" و"اليسار الديمقراطي" و"الكتائب" وأشرف ريفي وكل مكونات 14 آذار.
وبدلاً من أن يتسلل الكسل إلى صفوف هذه المجموعات، كما حصل في الحركات والأحزاب التي أُنشِئَت بعد انتفاضة 2005، تقتضي شروط التمويل أن تتكثف الأنشطة وتتنوّع لاستقطاب أكبر عدد ممكن من المواطنين، في ظل عقود تعاقدية موسمية، بحيث لا تجدد الوكالات الدولية العقد مع من لا يتمتع بالإنتاجية اللازمة. وهنا عبرة رابعة تقضي بعدم توزيع "شيكات على بياض"، كما حصل بُعيد العام 2005، إذ "ندفع حصراً لمن يجدّ في العمل" هذه المرة. ولما كان جيل الصّحافيين الذين رافقوا انتفاضة 2005 بالطبل والزمر وشهود الزور فقدوا كل سحرهم، ولم يعد أحد يذكرهم أو يستضيفهم، فلا بدّ إذاً من جيل جديد من الصحافيين والصحافيات.
والعبرة الخامسة تكمن في محاولة استقطاب أكبر عدد ممكن من الإعلاميين والناشطين والأحزاب الذين يدورون في فلك الفريق المستهدف، لما في ذلك من تأثير معنوي كبير، ولو لبضع ساعات فقط.
وإذا كان انقسام العام 2005 قد أدى إلى نشوء 8 و14 آذار السياسيين، فإن العبرة السادسة قضت بترسيخ الانقسام بشكل واضح ونهائي هذه المرة: "مع حزب الله" و"ضد حزب الله"، بحيث يصبح "حزب الله"، وليس سلاح "حزب الله" حتى، هو عنوان الأزمة الاقتصادية والأزمة المالية والأزمة المعيشية، لا الأزمة الأمنية والسياسية فقط، ويصبح كل مواطن، مهما بلغ حجم لامبالاته بالسياسة، معنياً باتخاذ موقف سلبي من الحزب، نتيجة مصادرة أمواله من المصارف، أو طرد أقربائه من وظائفهم، أو عدم إيجاده الدواء أو الحليب لأولاده. وإذا كان هناك في السابق بعض الحياء في مقاربة موضوع المقاومة والدور المقاوم للحزب، فإن الحياء ممنوع ومحظور اليوم.
أما العبرة السابعة، فقضت بعدم إضاعة وقت الأجهزة الأمنية المحلية والدولية بفبركة الأدلة وإخراج الأفلام السينمائية لتثبيت الاتهام السياسي بجريمة المرفأ، إذ أمكن تحقيق النتيجة نفسها بسرعة أكبر ومن دون محكمة ومحاكمة. وإذا كانوا يومها يحتاجون إلى أن يدرّبوا شهود الزور في الغرف الأمنية، فإنهم باتوا يكتفون اليوم بتلقين شاهد الزور ما يفترض به قوله مباشرة على الهواء. يومها، كانوا بحاجة إلى سجن الضباط الأربعة لكسر الهيبة والمكانة. أما اليوم، فتكسر الهيبات والمكنات بكبسة زر تصدر عنها آلاف التغريدات وعشرات الفيديوهات وبضعة مقالات.
وفي النتيجة، إعادة تدوير شاملة وكاملة لفريق كامل من أجل أن يلائم الموضة والمزاج الجديدين. شكل جديد لمضمون قديم، فها هم أنفسهم: أصحاب المشيخة والبكوية والسعادة المتوارثة منذ أكثر من مئة عام، وأصحاب الوكالات الحصرية للغاز والدواء والمواد الغذائية والمشتقات النفطية منذ الاستقلال. يمكن أن يتغير كل شيء، ولا يتغيروا. يمكن أيضاً أن يتغير كل شيء حتى لا يتغيروا.
وإذا كان العقل المخطط قد راكم استخلاص العبر من تجربة 2005 و2006 ومحاولة الاستنزاف التي امتدت في سوريا من 2012 حتى 2018، فإنه افترض أن تشديد الخناق الاقتصادي لا بدّ من أن يترافق مع تفريغ أكبر مساحة ممكنة من البيئات الصديقة لـ"حزب الله"، مستفيداً من التناقضات الكثيرة وتراكم الحساسية والمآخذ، قبل أن يُطبِق على الحزب بهجوم شامل. ولا شكّ هنا في أنه استفاد من عوامل كثيرة، باستثناء التوقيت وعدم متانة الأقنعة.
إنَّ التوقيت، سواء في تشرين الأول/أكتوبر 2019 أو في آب/أغسطس 2021، كان باكراً جداً وبعيداً عن الاستحقاقات التي يملك "حزب الله" وحلفاؤه القدرة الكاملة على التحكّم في مواعيدها. وبدلاً من أن يتدرج الهجوم على "التيار الوطني الحر" مثلاً بشكل تصاعدي، ليبلغ ذروته عشية الانتخابات، اندفع هؤلاء إلى إفراغ كل ما لديهم قبل الانتخابات بأكثر من عامين، ليبدأ من بعدها المسار الانحداري، إذ لم يعد أحد يأتي على ذكر التيار ما لم يكن المبادر إلى الاستفزاز، حتى في موضوع الكهرباء.
وفي خطأ تكتيكيّ متواصل، بلغ التصعيد ضد "حزب الله" ذروته في ذكرى 4 آب/أغسطس، ليبدأ المسار الهجومي بالانحدار من جهة، ويتمكن الحزب من الدفاع عن نفسه وتنظيم هجوم مضاد من جهة أخرى. ولا شك في أن من غير الواضح حتى الآن ما إذا كان هؤلاء قد استدرجوا إلى الشارع في توقيت خاطئ، أو أنهم اختاروا عن سابق تصور وتصميم هذا التوقيت الخاطئ.
أما الديكور والألوان والأسماء الجديدة للمجموعات القديمة، فتساقطت أقنعتها مع مرور الوقت، ليتضح أنهم ليسوا سوى الناشطين والإعلاميين والمقاولين والمصرفيين والمتعهدين الذين عايشوا وتعايشوا واستفادوا من كل الوصايات، واعتقدوا في زمن "النصرة" و"داعش" قبل بضع سنوات أنهم سينتصرون لا محالة بحكم الدعم الغربيّ والخليجيّ، فناصروهم بتكفيرهم وإجرامهم وسياراتهم المفخخة، مع العلم أن فضح هؤلاء وتعريتهم سهل جداً في التوقيت المناسب.
وبموازاة التوقيت الخاطئ وتساقط الأقنعة، كان هناك خلل حقيقيّ في القدرة على إقناع الرأي العام بأنَّ "حزب الله" هو المسؤول عن الانهيار الاقتصادي و"كل المآسي"، إذ إنَّ المتحزبين في الجهتين هم المتحزبون الَّذين يؤمنون سريعاً بما تقوله مرجعيّاتهم الحزبيّة. أما غير الحزبيين، فهم غاضبون - فعلاً لا شكلاً - من "كلّهم يعني كلّهم"، ولا يجدون اليوم أيّ بديل يعمل بجدية لإخراجهم من عنق الزجاجة.
هؤلاء تفرجوا منذهلين على عام من الضوضاء بشأن الفساد، من دون الإضاءة على ملف فساد واحد لتحديد مكامنه ومحاسبة المسؤولين عنه، ثم أتى انفجار بيروت كتتويج للفساد والإهمال الرسميين في مناسبة استثنائية لتوجيه الملامة إليهم "كلهم يعني كلهم"، من سياسيين وإداريين وأمنيين وقضاة، وإذ بالعقل المخطّط العظيم يقرّر تسييس الاتهام، ويأخذه باتجاه فريق واحد، في تكرار واضح ومملّ لكلّ ما حصل في العام 2005، مع العلم أنَّ الناس والبلد كانوا يتحمّلون تكلفة المعركة السياسية يومها، فيما هم متعبون اليوم ومقتنعون بأن من يجرّب المجرّب في العام 2005 و2006 و2012، يكون عقله "مخرباً".
مرة أخرى: تراهم يندفعون خلف حلمهم الكبير بوطن حقيقيّ صغير. أنهار متفرقة تصبّ في بحر كبير. بحر الناس الذين لا يكادون يفتحون عيونهم حتى يروا الحقيقة كاملة: هناك من لا يريد لهذا البلد أن يكون بلداً. هناك من يريد تسييس كلّ شيء لاسترضاء ممول واستقطاب آخر. هناك من قاتل بالناس أول مرة وثاني مرة، وهو يستعدّ لمواصلة القتال بلحمهم ودمهم ومدّخراتهم ومستقبلهم مرة ثالثة ورابعة وخامسة وسادسة إلى ما لا نهاية.