الانسحاب الأميركي من وسط آسيا بين الفوضى والاستقرار

كما كان دخول أميركا عسكرياً إلى قلب آسيا، من خلال احتلال أفغانستان قبل 20 عاماً، تبدّلاً نوعياً في وضع الجغرافيا السياسية الذي كان قائماً في وسط آسيا آنذاك، فإنَّ انسحابها اليوم لا يقلّ أهميّة كذلك من هذا المنظور.

  • الانسحاب الأميركي من وسط آسيا بين الفوضى والاستقرار
    كان الدخول العسكري الأميركي إلى قلب آسيا تحولاً استراتيجياً إذ جعل منها المهيمن الرئيس في عموم منطقة أوراسيا

لم يكن دخول أميركا إلى آسيا الوسطى - قبل 20 عاماً من خلال احتلال أفغانستان - نقلة هامشية في لعبتي الشطرنج الجغرافيتين، السياسية والاقتصادية، فكما يقول الأستاذ المساعد البروفيسور برياني تود في مركز البحوث الاستراتيجية "Near East South Asia Center for Strategic Studies" في جامعة " National Defense University" الأميركية: "إذا ما كنّا - يقصد الأميركيين - خلال التسعينيات ننظر إلى منطقة وسط آسيا من خلال البعد الروسي، فإننا صرنا في الألفية الثانية ننظر إلى تلك المنطقة من خلال البعد الأفغاني".

إنَّ وجود أفغانستان في قلب آسيا يجعل منها عقدة مواصلات برية في حركتي نقل البضائع والأفراد، ولا سيما أنَّ لها حدوداً مشتركة مع 6 دول آسيوية، 3 منها تعد دولاً محورية، هي الصين شرقاً، وباكستان جنوباً، وإيران غرباً. يضاف إلى ذلك وقوع أفغانستان في حيّز اهتمام جمهورية روسيا الاتحادية ضمن عقيدة "الخارج القريب" أو استراتيجية "سياسة الوصول جنوباً" في حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي؛ فمن خلال البرّ الأفغاني يمكن لروسيا الوصول إلى باكستان، ومنها إلى المحيط الهندي.

لهذا، كان الدخول العسكري الأميركي إلى قلب آسيا تحولاً استراتيجياً، إذ جعل منها المهيمن الرئيس في عموم منطقة أوراسيا، ومؤثراً أساسياً في سياسات دول تلك المنطقة ونُظُمِها، ما شكَّل مصدر إزعاج لكلٍ من روسيا والصين وإيران؛ فبالنسبة إلى روسيا، صار الوجود العسكري الأميركي في حديقتها الخلفية، علاوة على قطع الطريق عليها للوصول إلى المحيط الهندي. بالنسبة إلى إيران، شكَّل تموضع قوة عسكرية عدوانية على حدودها تهديداً استراتيجياً دائماً، ولا سيما بعد تمدد هذا الوجود إلى الساحة العراقية في غرب آسيا، ليضع إيران بين فكّي كماشة.

أما صينياً، فشكَّل الوجود الأميركي في أفغانستان حاجزاً أمام طريق الصين التجاري للوصول إلى الغرب؛ هذا الطريق الذي تحوّل في ما بعد إلى استراتيجية "مبادرة الحزام والطريق" الصينية. وازدادت أهمية الممر الأفغاني في "مبادرة الحزام والطريق" بعد بناء الصين ميناء "جوادر" على بحر العرب في باكستان، وبعد تَبَلْور اتفاقيات "الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني" الذي يعد درَّة التاج في "مبادرة الحزام والطريق".

يظهر هذا الاهتمام الصيني المتزايد في أفغانستان في زيادة حجم المساعدات النقدية لهذا البلد، وفي اتفاقيات الاستثمار الصيني الموقَّعة حديثاً في قطاع التعدين واستغلال مناجم النحاس، إضافةً إلى مشاريع بنى تحتية أخرى من سكك حديد وغيرها.

ورغم أنَّ العديد من المشاريع الاقتصاديّة الاستراتيجيّة التي تم الاتفاق عليها بين الصين وأفغانستان ما زالت تنتظر الدخول حيز التنفيذ، ورغم أنَّ عدد الشركات الصينية التي دخلت فعلاً إلى السوق الأفغاني لم يتجاوز الـ300، وهي تقتصر حالياً على كبريات الشركات الصينية، كشركة "هواوي" مثلاً، فإنَّ المصالح "الجيو-سياسية" و"الجيو-اقتصادية" الصينية باتت واضحة في الساحة الأفغانية. كل هذه الاستثمارات الاقتصادية لا تنتظر سوى زوال العائقين الرئيسين أمام البدء بها، وهما الوجود الأميركي واستعادة الاستقرار السياسي في هذا البلد الذي أنهكه الاحتلال والحروب البينية.

إذاً، كما كان دخول أميركا عسكرياً إلى قلب آسيا تبدّلاً نوعياً في وضع الجغرافيا السياسية الذي كان قائماً في وسط آسيا آنذاك، فإنَّ انسحابها اليوم لا يقلّ أهميّة كذلك من هذا المنظور. 

وهنا، نلحظ أنَّ انسحاب الاحتلال السوفياتي أواخر الثمانينيات عقب فشله في أفغانستان، كان قد حصل ضمن استراتيجية وخطة منظمة، ما ساعد في صمود حكومة نجيب الله التي كانت مدعومة سوفياتياً حتى تفكك الاتحاد السوفياتي ذاته، بينما نجد أن الانسحاب الأميركي تم بطريقة عشوائية، ومن دون استراتيجية واضحة، ما يطرح احتمالات دخول أفغانستان في حالة عدم استقرار سياسي ودورة عنف داخلي متجدّد، حتى إنَّ صحيفة "وول ستريت جورنال" كانت قد كشفت مؤخراً عن تقديرات استخبارية أميركية جديدة تتنبأ بسقوط حكومة كابول المدعومة أميركياً خلال 6 أشهر بعد استكمال الانسحاب الأميركي.

لهذا، صدرت تقديرات في كلٍّ من روسيا والصين تُخمِّن أن طريقة الانسحاب الأميركية غير المدروسة تهدف عن عمد إلى إدخال الساحة الأفغانية في حالتي فوضى وعدم استقرار، ما يضرب الاستراتيجيتين الروسية والصينية في منطقة وسط آسيا، اللتين يعدّ استقرار أفغانستان عنصراً مهماً فيهما.

بمعنى آخر، إنَّ الأميركي يسعى إلى إشعال كرة نار ليلقي بها في الحضن الروسي والصيني، وحتى الباكستاني والإيراني، ويمكن لعدم الاستقرار في أفغانستان أن يؤثر في ساحتي باكستان وإيران الداخليتين، ولا سيّما الساحة الباكستانية. وبهذا، يترك الأميركي على عاتق هذه الدول عبء ترتيب الفوضى التي خلقها بنفسه. ولعل هذا ما يفسر رؤية الصين وروسيا للانسحاب الأميركي من أفغانستان على أنّه فرصة وتحدٍّ في آنٍ واحد.

وقد عبَّرت الصين صراحةً عن توجُّسها من طريقة الانسحاب الأميركي غير المنظم، وذلك في كلمة مندوب الصين في جلسة "مجلس الأمن الدولي" في 22 حزيران/يونيو 2021، التي خُصِّصَت لنقاش الوضع في أفغانستان، كما أكّد هذا التوجُّس وزير خارجيتها وانغ يي خلال افتتاح "منتدى السلام العالمي" التاسع الذي عُقِد في بكين في 3 تموز/يوليو 2021.

لكنْ مهما كان الحال، سواء كان انسحاب أميركا، كما وصفه بدقّة ديمتري ترنين مدير "مركز كارنيغي موسكو"، حين كتب أنَّ الانتشار الأميركي خارج العالم الغربي يتضمّن مشكلتين؛ أولهما أن الأميركي عندما يدخل منطقة بالقوة يُحدِث اضطراباً في "جغرافيّتها السياسية" السائدة، والأخرى تكون عند انسحابه، إذ يُخلِّف وراءه فوضى، أو أنَّ الانسحاب الأميركي جاء فوضوياً بشكلٍ متعمّد؛ ففي الحالتين، لا يغير ذلك من حقيقة الأمر ومما يترتّب عليه.

وحتى إن عددنا الانسحاب الأميركي تحولاً إلى استراتيجية "التحكّم في الفوضى عن بُعد" في محاولةٍ لضرب مصالح الصين وروسيا في منطقة وسط آسيا بكلفة أقل، يظل هذا انكفاءً على وقْع فشَلٍ لاحتلال دام 20 عاماً، إذ أخفق الاحتلال في تحقيق هدفه الاستراتيجي بتثبيت سيطرةٍ مستتبةٍ للأميركي وحلفائه على قلب آسيا، وعلى عقدة المواصلات البرية عبر أفغانستان.

ولا ننسى أن الهدف المعلن الأميركي عند احتلال أفغانستان كان القضاء على حركة "طالبان" نهائياً، بينما نجد اليوم أن احتمال عودة "طالبان" إلى الحكم صار كبيراً، بعد أن باتت التقارير المتواترة تشير إلى تَمكُنها من استعادة السيطرة على نحو 80% من مساحة أفغانستان في فترة زمنية قياسية، وبعد أن باتت كلّ الدول المجاورة لأفغانستان، إضافة إلى روسيا، تتعاطى مع الحركة على أنها اللاعب الرئيس في المشهد الأفغاني. وبدأت الهند أيضاً مؤخراً بفتح خطوط تواصل معها، رغم الموقف العدائي للهند تجاهها، بسبب ديناميات التحالفات في ذلك الإقليم وتعقيداتها، بين الصين وباكستان من ناحية، والهند من ناحية مقابِلة.

وفي المحصّلة، تفرض المرحلة القادمة تحدياً على الدول الفاعلة في ذاك الإقليم، ولا سيما الصين وروسيا، بالتعاون مع إيران وباكستان والهند، من أجل ترتيب الوضع الداخلي الأفغاني واستعادة هذا البلد استقراره السياسي الذي يتوقف عليه انطلاق حركة إعادة الإعمار والتنمية، بما يخدم الشعب الأفغاني بداية، ويصب تبعاً في مصلحة الاستراتيجيات الكبرى لمركزي القوى العالميين الصاعدَين، الصين ومبادرتها "الحزام والطريق"، وروسيا واستراتيجيتها "الأوراسية"؛ هذه الاستراتيجيات التي تمهّد لولادة عالَم ما بعد الهيمنة الغربية.

من أجل هذا الهدف، توجد عدة اتحادات وتحالفات إقليمية يمكن البناء عليها من أجل إعادة رسم الجغرافيتين السياسية والاقتصادية في منطقة وسط آسيا، وامتداداً غرب آسيا، لكن من دون الخوض في التفاصيل، يرى البعض أن تكون "منظمة شانغهاي للتعاون" هي الأكثر قدرة على القيام بهذه المهمة الكبرى التي لا تخلو من الفخاخ والمصاعب.

أما بالنسبة إلى آثار هذه التحولات في المنطقة العربية، فنوجزها بالمعادَلة الآتية: كل صعود للشرق، وأفول للغرب، وتراجع للإمبريالية والهيمنة الغربية، هو مصلحة محققة لـ"دول الأطراف" عموماً، ما يوجِد فرص وبيئة جديدة مؤاتية في المنطقة العربية، يبقى على عاتق العرب حُسن استثمارها وتوظيفها في مصلحة الإقليم.