الاستراتيجية الخارجية الروسية الجديدة وتحرير الشمال السوري
سوريا مقبلة على مرحلة جديدة، فاحتدام الصراع الدولي، وتقدّم القوى الآسيوية الناهضة، مع بداية تموضع سعودي واضح باتجاه الشرق، المترافق بمصالحة مع إيران، تمنح فرصاً لا حدود لها لسوريا كي تخرج من كارثتها، وتعيد بناء نفسها من جديد بشروط غير متوفّرة حتى الآن.
كان من الملفت للنظر، ما عبَّر عنه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في إثر إطلاق النقاط الست عشرة، حول الاستراتيجية الجديدة للخارجية الروسية، بعد أن وقَّع عليها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صباح يوم 31 آذار/مارس، والتي لم تغب عنها سوريا، ضمن مجموعة الدول، التي ستعمل معها، والمبنية على تعزيز أواصر التعاون والدفاع.
والملاحظ فيها تركيز الأولوية على التعاون الشامل مع إيران، والدعم الشامل لسوريا، إضافة إلى كل من تركيا والسعودية ومصر ودول أُخرى. فكيف سينعكس ذلك على إعادة وحدة الأراضي السورية، وتحرير المناطق خارج سيطرة دمشق؟
أهم نقطة في النقاط المذكورة، هي النقطة الأولى، التي تعتبر الولايات المتحدة المسؤولة الأولى عن مشاكل العالم (تعتبر الوثيقة الولايات المتحدة الأميركية المحرّك الرئيسي والمصدر الأساسي للسياسة المعادية لروسيا وأكبر تهديد يواجه العالم وتطوّر البشرية). وتعتبر هذه الخطوة المتقدمة لروسيا، انفكاكاً شبه كامل عن الغرب، وهي الأكبر خلال العقدين الماضيين، وتصعيداً للمواجهة العسكرية والسياسية والاقتصادية مع الولايات المتحدة، مع فتح أبواب جديدة للمواجهة العسكرية، في ساحات جديدة، وهي كل من القوقاز والسويد وفنلندا وبولندا، وهي المناطق التي تشكّل منطلقاً لاستهدافها.
لم تأت هذه الاستراتيجية الجديدة من فراغ، والملاحظ أن التوقيع عليها والإعلان عنها، تمّ بعد زيارة الرئيس الصيني تشي بينغ لموسكو، وعقد اللقاء رقم أربعين مع فلاديمير بوتين، منذ أن استلم حكم الصين عام 2012، كاسراً لرهانات القوى الغربية، باستحالة التحالف بين البلدين، نظراً لم يعتبره من إسهام روسيا القيصرية في قرن الإذلال للصين، بالشراكة مع بريطانيا والولايات المتحدة.
ولما يعتبرونه استيلاء روسيا منذ القرن التاسع عشر على مساحات واسعة جداً من الأراضي الصينية، بما في ذلك القاعدة البحرية فلاديفوستوك، التي كانت تسمى بالصينية Haishenwai. لكنّ البلدين قدّما نموذجاً مهماً للعلاقات الدولية، بتحالف غير معلن حتى الآن، لخوض حربهما سويةً لإسقاط النظام الدولي الحالي، وإيجاد بديل أقل ظلماً وهيمنة وأكثر عدلاً، يعتمد على مبدأ الشراكة.
إضافة إلى الصين هناك إيران، التي تشترك مع روسيا في أكثر من ملف، على الرغم من الاختلاف الواضح حول "إسرائيل"، التي لم تتوقّف ضرباتها العسكرية لما تعتبره وجوداً عسكرياً مقلقاً لها في سوريا، ولكن ما يدفعهما للتحالف الشامل بالدرجة الأولى هو اجتماعهما تحت سقف التهديدات الأميركية بالإسقاط والتفكيك والعقوبات.
وهذا ما دفعهما إلى خوض حروب وصراعات مشتركة في سوريا بشكل أساسي، وفي أوكرانيا كما يدّعي الغرب، وعينهما الآن على ما يجري في القوقاز، التي تشكّل ساحة أميركية "إسرائيلية" مشتركة لتهديد البلدين، عدا عن بقية دول آسيا الوسطى وأفغانستان وباكستان، التي تشكّل جميعها ساحات ضغط وتهديد على البلدين.
أصبح من الواضح أن هناك مشروعاً متّفقاً عليه بشكل أساسي، بين روسيا والصين وإيران، بضرورة البدء بإخراج الولايات المتحدة من منطقة غرب آسيا، وتركيا القلقة ليست بعيدة عنه، في حال تمّ حسم الانتخابات الرئاسية المقبلة، لصالح الرئيس الحالي رجب طيب إردوغان، بغياب أي مشروع واضح للمعارضة التركية حول الوجود الأميركي، رغم تبنّيها لخروج القوات التركية من شمال سوريا، مقابل المشاركة بإعادة الإعمار، وبناء نظام إقليمي مع سوريا والعراق وإيران، بعنوان "السلم والتعاون لدول الشرق الأوسط".
من الطبيعي أن تبدأ عملية إخراج الأميركيين من منطقة شمال شرق الفرات، في الجزيرة السورية، وبعدها من منطقة التنف. فالاحتلال الأميركي هو أكبر عائق أمام استقرار منطقة غرب آسيا إضافة إلى مصر، وهذا الاستقرار لا يمكن أن يتم بغياب سوريا، التي أصبحت عبئاً على الجميع، بعد أن تمّ استنفاد فرص إسقاطها، وهي تحوّلت إلى الساحة الأولى للمواجهة الكبرى في غرب آسيا، بين القوى الآسيوية الناهضة، وبين النظام الدولي الغربي المنكفئ.
أخذت المواجهات مع الأميركيين منحىً مختلفاً، قبل إعلان لافروف عن الاستراتيجية الروسية الجديدة، وهي بدأت بالتشكّل قبل ستة أشهر، وبتنسيق عالي المستوى بين روسيا وإيران وسوريا، وتبلورت في شهر آذار/مارس الماضي، مع مهاجمة القاعدة العسكرية الأميركية بالقرب من الحسكة، واستهدافها بالطيران المسيّر، والإعلان الأميركي عن مقتل متعاقد أميركي، والتي ترافقت مع اشتباكات هي الأعنف في منطقة الميادين ودير الزور، وتُوّجت ببيان الإعلان عن لواء "الغالبون"، بمنحى جديد لتشكيل فصائل للمقاومة، مهمتها تحرير شرق الفرات من الأميركيين، وأن زمن عبور النهر إلى الشرق قد اقترب، وبغطاء جوي روسي.
لم يتوقّف الأمر في منطقة دير الزور فقط، فقد تحرّكت أربع فرق عسكرية سورية باتجاه شرق الفرات، إلى منطقة عين العرب، بالترافق مع نقل الجيش الروسي لصواريخ بالستية ومنظومات دفاع جوي إلى قاعدة صِرّين، إضافة للتعزيزات التي وصلت إلى القامشلي من تجهيزات تشويش ودفاع جوي، بما يؤشّر على قرب المواجهة المباشرة، أو الدفع بالأميركيين لاتخاذ قرار الانسحاب من سوريا، وهو الأغلب، اعتماداً على وصول الجيش السوري وحلفائه إلى كل النقاط الأميركية ومحاصرتها، كما حصل للنقاط التركية بعد تحرير الريف الشرقي من إدلب، والطريق الدولي M5.
الأمر في الشمال السوري لا يتوقّف على الأميركيين فقط، فالاحتلال التركي أيضاً سينتهي، من منطلقات مختلفة، فتركيا تعمل على التموضع شرقاً، والتخلص من كل أزماتها الخارجية، ومشكلتها الكبرى هي مع سوريا، ولا حلول سياسية مع الجوار من دون حل مشكلة احتلالها لقسم واسع من الشمال السوري، وهي لم تستطع أن تقنع دمشق بهيكلة المجموعات المسلحة ضمن الجيش السوري، وتسليمها أمن حدودها مع سوريا.
وهذا ما رفضته دمشق بشكل قاطع، كما رفضت من قبل وحتى الآن إعطاء أي صيغة شرعية لقوات سوريا الديمقراطية "قسد"، وهذا ما أدركته القيادة التركية، وأبلغت بذلك الفصائل الموجودة في جرابلس وشرق الفرات، بعد اجتماع حصل في غازي عنتاب أواخر شهر آذار/مارس.
سوريا مقبلة على مرحلة جديدة، فاحتدام الصراع الدولي، وتقدّم القوى الآسيوية الناهضة، مع بداية تموضع سعودي واضح باتجاه الشرق، المترافق بمصالحة مع إيران، تمنح فرصاً لا حدود لها لسوريا كي تخرج من كارثتها، وتعيد بناء نفسها من جديد بشروط غير متوفّرة حتى الآن، والتي تقتضي التعاطي مع الفرص الذهبية، بآليات مختلفة عن كل ما سبق، فهل ستجني ثمار هذه الفرص؟