الأسد في أبو ظبي.. هل نرى إردوغان في دمشق؟
سوريا كانت من أهم بنود المباحثات التي أجراها إردوغان مع محمد بن زايد، في أنقرة وأبو ظبي.
عندما استلم حزب العدالة والتنمية السلطة نهاية 2002، كانت سوريا الدولة الأولى التي زارها رئيس الوزراء عبد الله غول (5 كانون الثاني/يناير 2003) في إطار جولتيه العربية والإقليمية، لمنع الحرب على العراق. وهو ما فشل فيه بسبب موقف صدّام الرافض لكل الوساطات. أمّا إردوغان، الذي حلّ في نهاية آذار/مارس 2003 محل غول في رئاسة الحكومة، فلقد اختار السعودية أولَ محطة عربية يزورها (17 كانون الثاني/يناير 2004) قبل مصر (12 تشرين الثاني/نوفمبر 2004)، ثم سوريا في 22 تشرين الثاني/نوفمبر، وسبق أن زار طهران قبلها في 28 تموز/يوليو 2004.
وحرصت أنقرة، في عهد غول وإردوغان، على إقامة علاقات متوازنة بجميع الدول العربية وايران، بل حتى "إسرائيل"، وهو ما ساعدها على أداء دور الوسيط في مجمل الخلافات العربية – العربية، بل حتى بين "إسرائيل" وكل من سوريا و"حماس"، كما هي الحال بين "حماس" ومحمود عباس.
وحظيت سوريا بأهمية خاصة ومميزة في الاهتمام التركي، وخصوصاً بعد أن أقام إردوغان وغول علاقات شخصية وعائلية بالرئيس الأسد، الذي فتح أبواب سوريا على مصاريعها أمام الأتراك، في الوقت الذي كانت عدة دول عربية تعاديه بسبب تصدّيه للاحتلال الأميركي للعراق، ونتيجة تطورات الأزمة اللبنانية قبل اغتيال رفيق الحريري وبعده، وحرب تموز/يوليو 2006.
شجّعت سياسات أنقرة هذه واشنطن والعواصم الغربية على العمل على تسويق تجربة "العدالة والتنمية" الديمقراطية في بلد مسلم وعلماني لدى الدول العربية وشعوبها وأحزابها، ضمن ما يسمى مشروع الشرق الأوسط الكبير. واعترف إردوغان، أواخر 2004، بأنه "الرئيس المشترك لهذا المشروع"، إلى أن جاء "الربيع العربي" ليساعده على تنفيذ مشاريعه ومخططاته السياسية والتاريخية والعقائدية، والتي أراد من خلالها أن تساعده على إحياء ذكريات الخلافة والسلطنة العثمانيتين، وخصوصاً بعد أن بايعه إسلاميو المنطقة، في مختلف مناهجهم وتياراتهم وفصائلهم، وهم جميعاً تحت مظلّة الإخوان المسلمين. وحظي مشروع إردوغان هذا، وخصوصاً في سوريا، بدعم من العواصم الغربية وأنظمة الخليج، عسكرياً وسياسياً ومالياً، بقيادة قطر والسعودية والإمارات، التي ساهمت في إيصال الإسلاميين إلى السلطة في مصر وتونس واليمن، وتصدَّت لثورة الشعب البحريني، كما استنفرت كل إمكاناتها لإيصال الإسلاميين، بمن فيهم "داعش" و"النصرة"، إلى السلطة في دمشق.
جاء انقلاب السيسي على "إخوان" مصر في تموز/يوليو 2013، ودعم أنظمة الخليج له، باستثناء قطر، التي تحالفت مع أنقرة، ليضعا الرئيس إردوغان أمام تحديات جديدة، وخصوصاً بعد أن قطعت القاهرة وعواصم الخليج علاقاتها الدبلوماسية بالدوحة، وأعلنت "الإخوان" تنظيماً إرهابياً، من دون أن يمنع ذلك إردوغان من الاستمرار في التعاطف والتضامن مع "الإخوان" في جميع أنحاء العالم العربي، وخصوصاً بعد أن نجح في إقامة علاقات استراتيجية بالفصائل الإسلامية في ليبيا، وساعدته على كسب مواقع مهمة في هذا البلد الاستراتيجي، بسبب مجاورته كلاً من مصر والسودان وتونس والجزائر، وإردوغان يولي إسلاميّيها اهتماماً خاصاً.
وجاء الانقلاب الذي أطاح عمر البشير في نيسان/أبريل 2019 ليدفع حليفه الرئيس إردوغان إلى إعادة النظر في حساباته الإقليمية والدولية، وخصوصاً بعد أن توترت علاقاته بالرئيس ترامب، الذي أهانه برسالة بعثها إليه شخصياً. ودفع ذلك إردوغان، بعد توتر علاقاته ببرلين وباريس أيضاً، إلى مزيد من الانفتاح على موسكو، التي لم تكن بدورها مرتاحة إلى سياسات تركيا في القوقاز وآسيا الوسطى، والأهم في سوريا شرقي الفرات وغربيّه، وفي إدلب بالذات.
كانت كل هذه التناقضات كافية بالنسبة إلى إردوغان من أجل الاستعجال في انتهاج سياسات جديدة، إقليمياً ودولياً، وخصوصاً بعد اتفاقيات المصالحة الإسرائيلية مع سلطنة عُمان والإمارات والبحرين والمغرب والسودان. وصادف ذلك إطاحة الرئيس التونسي قيس سعيد حكمَ "الإخوان" وهزيمة "الإخوان" المدوية في انتخابات المغرب.
وهكذا، بدأت أنقرة اتصالاتها السرية والعلنية بالقاهرة و"تل أبيب" وأبو ظبي والرياض، وكانت معاً من ألدّ أعداء الرئيس إردوغان، الذي هاجمها وهاجم حكّامها بأشدّ العبارات وأعنف الألفاظ السياسية والشخصية. وحلت محلها "عبارات المحبة والمودة"، كما هي الحال مع "إسرائيل" والإمارات، مع انتظار المفاجآت القريبة مع مصر والسعودية. وكانت جميعاً مع أنقرة في حربها ضد الأسد منذ 2011 حتى 2017، عندما انسحب الجميع وبقيت الساحة لإردوغان فقط. ويبدو واضحاً أنه الآن في وضع صعب فيها، في ظلّ المعطيات الإقليمية والدولية الجديدة، وأهمها الحرب في أوكرانيا. وانتصار بوتين فيها سيغيّر كل شيء في المنطقة، وفي سوريا بالذات.
من دون العودة إلى الحديث عن الوجود العسكري التركي في سوريا، بالتنسيق والتعاون مع عشرات الآلاف من مسلَّحي فصائل المعارضة، بما فيها "النصرة"، والتذكير بما كُتب عن مساعي أنقرة لتتريك المناطق التي تسيطر عليها، وهي نحو 10% من مساحة سوريا، فلقد أعلن الرئيس إردوغان قبل أيام أنه "لن يطلب من اللاجئين السوريين (3،6 ملايين) العودة إلى بلادهم".
حديث إردوغان هذا جاء رداً على انتقادات المعارضة له في هذا الموضوع، وتحميله مسؤولية الأزمة السورية منذ بدايتها، بما في ذلك قضية اللاجئين. واتهمته أحزاب المعارضة باستمرار بالعمل على استغلالها داخلياً وخارجياً، خدمة لحساباته السياسية والاستراتيجية والعقائدية. وقال وزير الدفاع خلوصي آكار "إن تركيا تلبّي الاحتياجات الإنسانية لنحوالي تسعة ملايين سوري داخل تركيا، وفي شمالي سوريا"، كأنه أراد أن يقول "نحن الذين نقرّر مصير سوريا"!
هذا على الصعيد الداخلي. أمّا خارجياً، فالجميع يعرف أن سوريا كانت من أهم بنود المباحثات التي أجراها إردوغان مع ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، في أنقرة وأبو ظبي (مقالي بعنوان "خيارات أبو ظبي الصعبة.. تركيا أم سوريا و"إسرائيل"، بتاريخ 11 تشرين الأول/نوفمبر، ومقالي بعنوان 'الإمارات و"إسرائيل" وتركيا.. من هو العدو"، بتاريخ 23 تشرين الثاني/نوفمبر)، ما دامت أهدافه تلتقي مع "تل أبيب" هناك، بينما كانت الإمارات تبحث عن حلول وسط تساعدها على أداء دور ريادي في المنطقة بعد أن تجاهلها الرئيس بايدن، وأعلن صديقَ إردوغان الأميرَ تميم "حليفاً استراتيجياً لأميركا".
زيارة الرئيس الأسد، التي كانت متوقَّعة، لأبو ظبي، مع مزيد من التفاؤل بمسار الاتفاق النووي الإيراني، بات واضحاً أنها تستهدف، في الدرجة الأولى، تركيا لأن لها دوراً أساسياً ومباشِراً في مجمل قضايا المنطقة، وأهمها سوريا وليبيا والعراق، وبسبب دعمها للإسلاميين فيها، وفي المنطقة عموماً.
وهو الدور الذي يبدو واضحاً أن "ترتيبات ابن زايد" تهدف إلى وضع حدّ نهائي له، بعد إرضاء الرئيس إردوغان، مادياً كان أو سياسياً وعقائدياً.
فالمطلوب من إردوغان الآن:
1- الانسحاب من سوريا وإيقاف كل أنواع الدعم للفصائل المسلحة، التي تأتمر بأوامر أنقرة.
2- الاتفاق مع موسكو على صيغة ما تساعد الجيش السوري على بسط سيطرته على إدلب، في أسرع ما يمكن.
3- المصالحة مع دمشق والاتفاق معها على صيغة ما تساعد على إنهاء الأزمة شرقي الفرات، حيث الميليشيات الكردية الموالية لحزب العمال الكردستاني التركي.
على أن يكون الوجود العسكري التركي شمالي العراق وغربي ليبيا موضوعاً يتم الاتفاق عليه لاحقاً بعد نجاح الأطراف في ترتيب البيت السوري، وهو ما يتطلب أيضاً مساهمة تركيا في إعادة إعمار سوريا (بتمويل خليجي) وتشجيع اللاجئين فيها على العودة إلى بلادهم.
والسؤال هو: هل سيقبل الرئيس إردوغان، الذي صالح "إسرائيل" والإمارات (يسعى للمصالحة مع مصر والسعودية) هذه المطالب، ويفاجئ الجميع بزيارة دمشق، أو يلتقي والأسد في عاصمة محايدة! وكيف سيفعل ذلك؟
وهو ما سيتطلب منه بالضرورة التخلي عن نهجه الإخواني (سيفعل ذلك مع "حماس")، وبالتالي الاعتراف بهزيمته أمام الأسد، ما دام لم يستطع إسقاطه، على الرغم من كل الذي قام به، سرّاً كان أو علناً، طوال 11 عاماً من الأزمة.
يستبعد كثيرون قبول إردوغان مثل هذه الهزيمة أمام الأسد، بعد أن اكتسب عداؤه له "طابعاً شخصياً"، وفق اتهامات المعارضة، التي تقول "إن مصالحة إردوغان مع الرئيس الأسد ستعني تراجعه عن جميع مقولاته وسياساته العقائدية والتاريخية في السياسة الخارجية، مع انعكاسات ذلك على سياساته الداخلية"، وهو ما يستبعده كثيرون.
فإردوغان، كما قال الرئيس الأسد في أحد تصريحاته، "كان يتصرف كسلطان عثماني، وما على الأسد إلا أن ينفّذ أوامره". وهو يفعل ذلك في الداخل التركي بعد أن أصبح الحاكم المطلق للبلاد، بعد تغيير الدستور في نيسان/أبريل 2017، فتحوّل إلى "حاكم استبدادي لا بدّ من التخلص منه ديمقراطياً"، بحسب كلام الرئيس بايدن في كانون الأول/ديسمبر 2019. ومن دون أن يتذكّر أحد أن الأزمة في سوريا بدأت بعد أن اتهم إردوغان ومَن معه الرئيس الأسد بـ"الديكتاتورية والاستبداد"، وهما التهمتان اللتان توجّههما أحزاب المعارضة الآن إلى إردوغان، لكن من دون أن تفكّر في حمل السلاح، ومن دون أن تستنفر مئة دولة كلَّ إمكاناتها لمساعدتها، والأهم نقل 200 ألف إرهابي إلى تركيا، وهو ما فعلته في سوريا. ومن دون العودة بها إلى ما قبل عام 2011، فالحديث عن ترتيبات جديدة لن يعني أي شيء، لأن الأهم في ذلك هو أن يعود إردوغان إلى ما قبل عام 2011، ويذهب إلى دمشق ويحتضن صديقه الحميم، كما فعل ذلك أكثر من مرة، في سوريا وتركيا، اللتين كادتا تتّحدان نهاية عام 2010، لولا عداء إردوغان المفاجئ للأسد. والمصالحة معه تحتاج إلى فتوى شرعية من الثنائي، ابن زايد وابن سلمان، ومَن خلفهما في المنطقة وخارجها!