اقتحام رفح.. تصريحات تفاوضية أم عملية عسكرية مرتقبة؟

"جيش" الاحتلال الإسرائيلي لا يستطيع أن يقاتل في خان يونس ورفح، في آن واحد. وبالتالي، لا يمكن الجزم بموعد قريب لعملية عسكرية برية في رفح في ظل إعلان البيت الأبيض أن مفاوضات صفقة تبادل ووقف إطلاق النار تسير في السكة الصحيحة.

  • هل
    هل "إسرائيل" جاهزة لوجستيا للتوجه إلى اقتحام مدينة رفح؟

ما إن أعلنت حركة حماس رسمياً تقديمها رداً رسمياً بشأن الإطار العام لإبرام صفقة تبادل للأسرى مع "إسرائيل"، وخريطة طريق من ثلاث مراحل لوقف الحرب على غزة، حتى سارعت حكومة نتنياهو إلى إعلان مصادقتها على الخطة العسكرية لاقتحام مدينة رفح، وتوسيع صلاحيات وفدها المفاوض، في تصريحين متناقضين في آن واحد، الأمر الذي جعل الحالة لدى كثيرين أكثر ضبابية تجاه سيناريوهات المرحلة المقبلة من الحرب على غزة.

وعلى رغم كل التصريحات الإسرائيلية، التي تشير إلى أن هناك بالفعل عملية عسكرية قادمة في رفح، فإن تساؤلاً مهماً يُطرَح: هل التهديد باقتحام رفح يُعَدّ تصريحاً تفاوضياً من حيث التوقيت، وينطوي على إطار التهديد الإعلامي، أم هناك عملية برية باتت قريبة؟ 

من حيث التوقيت، التهديد الإسرائيلي باقتحام مدينة رفح جاء بعد تسليم حركة حماس ردها الذي يتضمن رؤيتها ومطالبها بشأن استعدادها لإبرام صفقة تبادل للأسرى مع "إسرائيل"، بعد حال الإحباط الذي تشكَّل لدى قادة الاحتلال خلال الفترة الماضية في إثر رفعها سقف المطالب والشروط، وهو ما كرّس صورة لدى نتنياهو وقادة جيشه، مفادها أن المقاومة الفلسطينية ما زالت لديها القدرة على القتال فترة أطول مما توقعوه بعد مضي ستة أشهر من الحرب الإسرائيلية العسكرية المدمرة على غزة. 

ذهاب نتنياهو إلى إعلان استخدامه سياسة حافة الهاوية ومصادقته على خطة عسكرية لاقتحام رفح، التي يوجد فيها أكثر من مليون نازح فلسطيني، يأخذ احتمالاً قوياً هدفه دفع الدول والوساطات الجارية إلى ممارسة مزيد من الضغوط على حركة حماس من أجل إبرام صفقة تبادل تُرضي اليمين الإسرائيلي المتطرف في "إسرائيل"، والذي بات يتعرض لضغوط داخلية كبيرة، وهذا ما يؤكد أن توقيت هذا التصريح في مثل هذا التوقيت تحديداً يُعَدّ تصريحاً إعلامياً تفاوضياً للضغط أكثر على حركة حماس، وبهدف فرض شروط الصفقة وفق المقاس الإسرائيلي.

ثمة سؤال آخر مهم في هذا السياق يطرح نفسه: لو كان هذا التصريح بالمصادقة على اقتحام رفح فعلياً وقريباً، فهل "إسرائيل" جاهزة لوجستيا للتوجه إلى اقتحام مدينة رفح، في وقت تشكو عجزاً كبيراً في إمدادات القذائف والأسلحة، وتباطؤاً واضحاً في الدعم العسكري الأميركي، خلال الأسابيع القليلة الماضية من الحرب على غزة؟

بات واضحاً أن حال الإحباط، الذي تَشَكَّلَ لدى الإدارة الأميركية، تُعَدّ سبباً أساسياً وراء تقليص الدعم العسكري لـ"إسرائيل"، أو تباطئه.

وجاء هذا التباطؤ نتيجة قناعات كبيرة تولَّدت لدى إدارة بايدن بفشل نتنياهو وعجزه عن حسم الحرب الإسرائيلية عسكرياً على الأرض لمصالح "إسرائيل"، وإدراك الإدارة الأميركية أن موعد الحل السياسي للحرب حان، وأن الاستمرار في الوتيرة نفسها، التي بدأت فيها الحرب، بات يشكل تعارضاً مع الرؤية والمصالح الأميركية لإدارة بايدن، في الدرجة الأولى. 

معطيات أخرى تشير إلى أن "إسرائيل"، من حيث التوقيت، لن يكون في مقدورها الإقدام عملياً على اقتحام رفح، في وقت أقر ضباط كبار في جيش الاحتلال الإسرائيلي بصعوبة القتال في خان يونس على مدار أكثر من شهرين متواصلين، وإعلانهم أن القتال ما زال مستمراً هناك، وسط تصاعد في وتيرة القتال وتوسعه في الجبهة الشمالية مع حزب الله أكثر وأكثر، وفي وقت تحشد "إسرائيل" كتائب وألوية عسكرية لها في الجبهة الشمالية، وباتت تتزايد، يوماً بعد يوم، لغة التصعيد في الميدان.

"إسرائيل" لا تستطيع أن تقوم بشن عمليتين عسكريتين في خان يونس ورفح، في آن واحد، في ظل اعترافها بوجود مقاومة شرسة في خان يونس، وإعلانها أنها ما زالت بعيدة عن نهاية المعركة، وهي أعجز من أن تقوم بفتح جبهتين في آن واحد: جبهة مفتوحة مع قطاع غزة، وأخرى تتسع بالتدريج في الشمال مع لبنان، كما هي الحال، وهي تدرك أن إمكانات حزب الله العسكرية تفوق قدرات حماس في قطاع غزة، أضعافاً مضاعَفة.

"جيش" الاحتلال الإسرائيلي لا يستطيع أن يقاتل في خان يونس ورفح، في آن واحد. وبالتالي، لا يمكن الجزم بموعد قريب لعملية عسكرية برية في رفح في ظل إعلان البيت الأبيض أن مفاوضات صفقة تبادل ووقف إطلاق النار تسير في السكة الصحيحة، وكل ما يصدر إسرائيلياً هو محل تشكيك غير قابل للتنفيذ مرحلياً.

"إسرائيل" أمام خيارين لا ثالث لهما إذا ما فكرت في اقتحام رفح فعلياً: إما أن تعيد استدعاء قوات من الاحتياط في التجنيد الجزئي، وإمّا استدعاء جنود من جبهة الشمال، والبحث عن دعم عسكري كما السابق، سواءٌ عبر طريق الدعم الأميركي، وهذا تراجع في الوقت الحالي بدرجة كبيرة، أو عبر شراء أسلحة من خلال شركات خاصة. وكل هذه المسارات تواجه فيها "دولة" الاحتلال صعوبات في ظل المتغيرات والمواقف الدولية والأميركية الرسمية، ومقاطعة عدد من الشركات وامتناعها عن تزويد "إسرائيل" بالأسلحة بعد جرائم الإبادة بحق الفلسطينيين في قطاع غزة. 

ثمة متغير مهم في مشهد الحرب على غزة، يتمثل بإدراك إدارة بايدن أن استمرار الحرب على غزة بات يشكل خسارة لها في أكثر من صعيد. فهي تواجه مشاكل داخلية وخارجية، إذ إن ما يجري في الجبهة الشمالية مع حزب الله بات يؤرّق "إسرائيل" وأميركا استراتيجياً، كما أن ما يجري من تصاعد عمليات للجيش اليمني في البحر الأحمر شكّل حال شلل في حركة التجارة العالمية، وشكل عاملاً مهماً في إصرار إدارة بايدن، الأمر الذي دفع كل الجهود والوساطات إلى أهمية التوصل إلى صفقة ووقف إطلاق نار في قطاع غزة على ثلاث مراحل. 

استراتيجيا، "إسرائيل"، التي تفاوض حركة حماس بعد ستة أشهر من المقاومة وهي تفرض شروطها، هُزمت هزيمة ثقيلة. أمّا إدارة بايدن، التي كانت محتضنة "إسرائيل" بعد السابع من أكتوبر، فغيرت وبدلت وتحاول حل الأزمة سياسياً، وبدأت ترفع مستوى الضغوط والانتقاد لطريقة استمرار الحرب، والتي وصلت إلى حد صدور مواقف جديدة لقادة في الحزب الديمقراطي الأميركي تطالب بضرورة وقف الحرب وإجراء انتخابات في "إسرائيل".

وهذا ما أيده بايدن لأول مرة منذ ولايته كرئيس للولايات المتحدة، وهو يؤشر على أن الرؤية الأميركية تجاه استمرار الحرب باتت بالفعل تشكل مخاطر على مكانة أميركا ومصالحها الكبرى في المنطقة، وهذا ما ترجمته تصريحات جديدة من الكونغرس الأميركي شكلت هجوماً على نتنياهو وائتلافه.

حصاد نتنياهو بعد ستة أشهر من حرب مدمرة على قطاع غزة حصاد خائب فاشل، أمام مقاومة صلبة تقاتل بكفاءة عالية. أمّا جرائم الإبادة الجماعية، والتي يرتكبها "جيش" الاحتلال، فلن تصنع له نصراً، وستسجل الأيام أن نتنياهو سيرضخ لشروط المقاومة، في وقت بات الصراع الداخلي يحتدم بين أطياف المعارضة والحكومة من جهة، وبين الحكومة الإسرائيلية والإدارة الأميركية، من جهة أخرى.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.