استراتيجيّة العقل وعصمة السلاح
المعركة المقبلة لا تقلّ صعوبة عن المعركة العسكرية التي خاضتها المقاومة على مدى ما يقرب من عام ونصف العام، وهي تستدعي حشد جميع إمكانيات جميع قوى المقاومة العربية في جبهة سياسية ثقافية تحفظ فكرة المقاومة وإرثها.
تابعت مثل الكثيرين جلسة مجلس النواب اللبناني التي انتهت بانتخاب العماد جوزف عون رئيساً. كان في داخلي يقين أنّ تلك الجلسة ستنتهي إلى هذه النتيجة، بعد حديث الحاج وفيق صفا من موقع استشهاد السيد حسن نصر الله، سيّد شهداء الأمّة، وما تلاه من انسحاب السيد سليمان فرنجية من السباق الرئاسي.
ما دفعني لمتابعة الجلسة هو الفضول لمعرفة الطريقة التي ستخرج بها الجلسة، ما بين سلوك المنتصر الذي تمارسه القوى الدولية والإقليمية المحلية الذي يحاول فرض صيغة المنتصر والمهزوم على المشهد، وسلوك قوى المقاومة الذي يرفض هذه الصيغة، مع إدراكه أنّ الظروف المحلية والإقليمية تفرض الوصول إلى نهاية سعيدة لتلك الجلسة.
تعرّضت المقاومة لضغوط كبيرة لدفعها إلى طريق القبول بالاستسلام بالشروط التي تحاول الدول الاستعمارية فرضها بناء على الوقائع الميدانية الجديدة التي فرضها الزلزال السوري، وتطوّرات الحرب في غزّة ولبنان. استعانت الدول الاستعمارية بخروقات العدو الصهيوني لاتفاق وقف إطلاق النار، والتي حاولت استفزاز حزب الله للردّ، وبالتالي استئناف الحرب للاستفادة من التغيّرات الميدانية وبشكل خاص وصول "جيش" العدو إلى الحدود السورية – اللبنانية.
تميّز ردّ المقاومة على الضغوط السياسية والعسكرية بالهدوء والصبر الاستراتيجي، وتوّج هذا الهدوء بتعامله مع جلسة مجلس النواب، سواء بالاستجابة لدعوة رئيس المجلس لعقد الجلسة، أو بالاتفاق على التصويت بورقة بيضاء في الجولة الأولى من الانتخاب مؤكّداً، من دون تصريحات نارية، أنه ما زال لاعباً مهماً في الساحة الداخلية، وأنه قادر على إعادة خلط الأوراق في المنطقة لو تمسّك بموقفه الرافض. جاء اللقاء مع المرشّح عون ليؤكّد موقع الثنائي الشيعي في المعادلة المحلية، وهو ما سمح بنجاح الدورة الثانية في الوصول إلى انتخاب الرئيس.
كانت التصريحات الأميركية والغربية وحلفاؤهم حول ضرورة انتخاب العماد جوزف عون، محاولة لاستفزاز نوّاب المعارضة بمن فيهم نواب الثنائي الشيعي لإفشال جلسة الانتخاب. هذا الفشل كان الوسيلة لوضع الحزب بين مطرقة العدو الصهيوني وسندان الخصوم الداخليين، مما يمكن أن يفجّر مواجهات مسلّحة تجرّ حزب الله إلى معركة داخلية حاول تجنّبها على مدى عقود.
بعد نجاح الحزب في تجاوز مطبّ انتخاب رئيس الجمهورية، وبضغط مباشر من المملكة العربية السعودية، انقلبت القوى السياسية على الاتفاق الشامل بفوز الجنرال عون بالرئاسة واستمرار السيد نجيب ميقاتي في رئاسة الوزراء، وقامت القوى بطرح القاضي نوّاف سلام والتصويت له كرئيس الوزراء الأول في العهد الجديد. جاء ردّ الحزب في سياق الهدوء نفسه كما عبّر عنه النائب محمد رعد بقوله: "كما يحقّ للآخرين اختيار رئيس الوزراء الذي يناسبهم، فإنه من حقّنا الحديث بهدوء عن أنّ هذا الخيار غير ميثاقيّ".
استراتيجية العقل دفعت الحزب إلى تجنّب السيناريو التصعيديّ، مظهراً حرصه على عصمة سلاحه من التورّط في حرب داخلية. يدرك العقل الاستراتيجي المقاوم أنّ حضور الرئيس الأميركي دونالد ترامب في المشهد السياسي العالمي سينطوي على مجموعة من التطوّرات السياسية والاقتصادية. يأتي ترامب وفريقه من المتطرّفين والأثرياء الساعين إلى التعامل مع العالم بمنطق الشركات ورجال الأعمال، ليضع العالم أمام تحدّيات كبرى، فقضايا الشرق الأوسط السياسية لا تحتل أولوية على أجندة ترامب، على العكس من التعامل مع البعد الاقتصادي والذي يمكن أن يشتمل على السماح بتعديلات على جغرافيا المنطقة.
فالحديث عن اعتراف ترامب بالسيطرة الإسرائيلية على الضفة الغربية، وإعطاء "إسرائيل" الضوء الأخضر للاحتفاظ بالمواقع التي احتلّتها داخل سوريا، لا يقع في مجالات التوقّعات فقط، ولكنه حديث يمتلك حيثيّات في الواقع تجعله خطة قابلة للتنفيذ. كما أنّ الضغط الذي مارسه مسؤولون في إدارة ترامب للوصول إلى اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، يشير إلى أنّ إدارة ترامب تسعى إلى تبريد بؤر الحرب في المنطقة، واللجوء إلى الحلّ الاقتصادي للضغط على جميع الأطراف للامتثال للسياسة الأميركية في المنطقة، وذلك بعيداً عن انتصار نهائي وكبير لأيّ من الأطراف وبشكل خاص تركيا و"إسرائيل".
ويدرك العقل المقاوم أنّ من يقف في وجه التسونامي الأميركي المقبل سيتعرّض إلى ضغوط محلية داخل البنية الوطنية بما في ذلك الحروب المحلية المحدودة، ذات الطابع الإثني أو الطائفي التي تعمل على إضعاف المقاومين عسكرياً وشعبياً. هذا السيناريو يشمل الشرق الأوسط وأوكرانيا وأميركا اللاتينية. في وجه هذا السيناريو يمكن أن تُدفع قوى المقاومة في لبنان وفلسطين إلى الاكتفاء بموقع المعارضة، بانتظار اكتشاف المزيد من تفاصيل السياسة الخارجية الأميركية. هذا الموقف سيسمح لقوى المقاومة بإعادة تنظيم صفوفها والتعامل مع الواقع بما يتناسب مع المستجدّات على الأرض.
محاولة البعض تصوير موافقة المقاومة على اتفاقات وقف إطلاق النار على أنها هزيمة، ليس سوى تفكير رغائبي ومحاولة لكيّ الوعي الشعبي الذي أصبح أكثر إيماناً بالمقاومة وقدراتها. فالمقاومة ما زالت حاضرة سواء سياسياً أو عسكرياً من خلال تصاعد العمليات العسكرية ضد العدو في غزّة، أو من اليمن. وهو الأمر الذي اعترف به صراحة العديد من قادة العدو حول عدم إمكانية هزيمة المقاومة عسكرياً.
المعركة السياسية والثقافية المقبلة لا تقلّ صعوبة عن المعركة العسكرية التي خاضتها المقاومة على مدى ما يقرب من عام ونصف العام، وهي تستدعي حشد جميع إمكانيات جميع قوى المقاومة العربية في جبهة سياسية ثقافية تحفظ فكرة المقاومة وإرثها، في مواجهة المخطط الاستعماري الجديد.