"استراتيجية الخروج" الأميركي من العراق

محاولة اغتيال مصطفى الكاظمي تمثل خلطاً جديداً للأوراق، بعدما كانت السلطات مطالبة بالكشف عن المتورّطين في قتل المتظاهرين.

  • "استراتيجية الخروج" الأميركي من العراق

مثّلت محاولة اغتيال رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي خلطاً جديداً للأوراق في العراق، بعدما كانت السلطات العراقية مطالبة بالكشف عن المتورّطين في قتل المتظاهرين الذين نزلوا الى الساحات للاعتصام والاعتراض على الانتخابات النيابية التي ما زالت نتائجها سبباً للتشنج والتوتر السياسي والأمني في العراق بعد اتهامات بالتزوير.

وتأتي هذه التطورات على بُعد شهرين من الانسحاب الأميركي المتوقع من العراق، بموجب مذكرة التفاهم بين الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي (تمّ توقيعها في تموز/يوليو 2021) والتي تمّ الاتفاق بموجبها على إنهاء المهام القتالية للقوات الأميركية في العراق في الحادي والثلاثين من كانون الأول/ ديسمبر عام 2021، وأن "العلاقة الأمنية سوف تنتقل بالكامل إلى دور خاص بالتدريب وتقديم المشورة والمساعدة وتبادل المعلومات الاستخبارية".

وأكدت المذكرة أن القواعد العسكرية التي استخدمتها القوات الأميركية "هي قواعد عراقية تعمل وفقاً للقوانين العراقية"، وأن الجنود الدوليين المتمركزين في هذه القواعد كانوا فقط للمساعدة في الحرب على "داعش".

وهكذا، وفي إعدادها لانسحاب قواتها من العراق، تحاول إدارة بايدن - بعد انسحابها المتسرّع  والفوضوي من أفغانستان - أن تحقق انتصاراً داخلياً وخارجياً عبر سحب القوات الأميركية من العراق بموجب مذكرة التفاهم الموقّعة مع الكاظمي.

وتحاول الدول المتدخّلة عسكرياً عادةً أن تضع "استراتيجية خروج" exit strategy تعطي انطباعاً بأنها خرجت بملء إرادتها لا من خلال الضغط الذي مارسته المقاومة الداخلية أو الدولية عليها. لذا، قد تعمد الى تأخير انسحابها للإيحاء بأنها قوية، وليست مرغمة على الانسحاب، إذ إن الانسحاب السريع يعطي إشارات سيّئة الى دول العالم والى الحلفاء والخصوم على حدّ سواء. بالنسبة إلى الحلفاء، قد يبدو "الخروج" كأنه قطع للالتزامات المعقودة، ما يؤدي الى فقدان المصداقية، بينما بالنسبة إلى الخصوم فإنهم بالتأكيد سيحاولون تصويره على أنه هزيمة وتراجع.

لذلك، إن تصميم استراتيجيات الخروج غالباً ما تعبّر عن محاولة لمعالجة تضارب الضغوط الداخلية والخارجية والميدانية على الشكل التالي:

-       عندما تكون الضغوط الخارجية أو الداخلية على الإدارة مقبولة ومتوسطة، تجهد الدولة لإبراز صورة "عدم الخسارة" الميدانية والعسكرية، فتعمد الى اتباع استراتيجية "الخروج الطويل الأمد"، الذي يقوم على اتفاق تفاوضي يسبق الانسحاب، ويحفظ ماء الوجه، ويؤدي الى انسحاب عسكري محدود الخسائر المادية والمعنوية. وهو ما يحاول الأميركيون فعله في العراق.

- عندما تكون الضغوط كبيرة جداً، فمن المرجّح أن تنتهج الدولة استراتيجية خروج سريع، بالرغم من تكاليفها الكبيرة وتبعاتها على سمعتها وهيبتها، وهذا ما حصل للأميركيين في أفغانستان.

وبما أن العراق يمثّل قاعدة محورية للأميركيين في سياستهم الشرق أوسطية، ويبدو أساسياً في احتواء النفوذين الإيراني والروسي في المنطقة، فإن "استراتيجية الخروج" الأميركية من العراق، يجب أن تكون مدروسة الى أبعد حدّ، ويجب أن تتضمن، بحسب العلم الاستراتيجي، الإجابة عن الأسئلة التالية:

-كيف ومتى تخرج القوات؟

- ما هي العواقب وكيف يمكن التخفيف منها الى أقصى حد؟

- كيف نوازن بين عملية سحب القوات والحفاظ على المصالح الأميركية في العراق وفي المنطقة؟

وانطلاقاً من كل ما سبق، تجد الإدارة الأميركية طريقها نحو سحب القوات الأميركية في أواخر العام الحالي، لكنها بحاجة إلى القيام بترتيبات معينة تحفظ لها مصالحها في العراق، وتكفل لها السيطرة على القرار فيه، وتثبيت نفوذها في مرحلة ما بعد سحب القوات، ويمكن الإشارة الى ما يلي:

1. إبقاء الوجود العسكري بصفات مموّهة:

يعتقد العديد من العراقيين أن سحب القوات هو مجرد تغيير صفة تلك القوات على الورق، وبالتالي سيبقى الوجود العسكري الأميركي في العراق لتحقيق التوازن مع النفوذ الإيراني فيه، وللسيطرة على التفاعلات الإقليمية، وخاصة لردع روسيا من أي محاولة لتوسيع نفوذها من سوريا الى العراق.

2. محاولة تغيير المعادلات السياسية

مثّلت الانتخابات النيابية العراقية فرصة للأميركيين لتغيير المعادلات في الداخل العراقي، والترويج عبر العديد من مراكز التفكير والإعلام العربي والغربي أن نتائج تلك الانتخابات تشير الى أن الأحزاب الموالية لإيران قد فقدت ثقة الناس. وهنا تجدر الإشارة الى أن حاصل الأصوات الانتخابية التي نالتها هذه الأحزاب هو نفسه الذي حصلت عليه عام 2018، ولكن القانون الانتخابي  الجديد (2019) أدّى الى نتائج مغايرة.

كما يشير العديد من الكتّاب الأميركيين والإعلاميين الى أن نجاح الكتلة الصدرية في الانتخابات مردّه الى قيام الصدر بالنأي بنفسه عن الطبقة السياسية واعتماده الشعبوية، ما يشير الى أن العراقيين سئموا الطبقة السياسية (خاصة الموالية لإيران) وصوّتوا ضدّها. وهنا أيضاً، يحتاج هذا الاستنتاج الى تدقيق أكبر، ومراجعة حجم الحاصل الانتخابي بالأرقام لكل كتلة من الكتل قبل الحكم النهائي.

وهكذا، فإن التطورات الميدانية والاشتباكات التي أعقبت ظهور نتائج الانتخابات النيابية، ومحاولة الاغتيال الفاشلة لرئيس الوزراء العراقي وسواها، كلّها تظهر أن العراق مقبل على مرحلة صعبة، فالشدّ والجذب الإقليميّين لا يبدوان مرشحين إلا لمزيد من التفاقم، وبالتالي سيستمر الصراع بالوكالة على أرض العراق، الى أن تحصل التسوية الإقليمية أو تفرض التطورات العراقية الداخلية على الأطراف اللجوء الى تسوية موضعية مرحلية مؤقتة.