اتفاقات أبراهام: سلام إسرائيلي و"إسلام أميركاني"
"الإسلام الأميركاني"، الذي جاءت "اتفاقية أبراهام" لترسيخه، له وجهان متناقضان شكلاً، ومتوافقان جوهراً.
في أثناء حفل توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر والكيان الصهيوني عام 1978م، قال الرئيس الأميركي جيمي كارتر: "دعونا نترك الحرب جانباً. دعونا نكافئ كلّ أبناء إبراهيم المتعطشّين إلى اتفاق سلام شامل في الشرق الأوسط".
وفي أثناء حفل توقيع اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الصهيوني عام 1993م، قال الرئيس الأميركي بيل كلينتون "إنَّ أبناء إبراهيم، أي نسل إسحق وإسماعيل، انخرطوا في رحلة جريئة. واليوم حقاً، بكل قلوبنا وأرواحنا، نقدم إليهم السلام".
وفي أثناء حفل توقيع اتفاقية وادي عربة بين الأردن والكيان الصهيوني عام 1994م، قال الملك الأردني حسين "سوف نتذكّر هذا اليوم طوال حياتنا لأجل أجيال المستقبل من الأردنيين والإسرائيليين والفلسطينيين وكل أبناء إبراهيم". هذا الاستدعاء لاسم إبراهيم – عليه السلام – كان أكثر وضوحاً في اتفاقية التطبيع بين الكيان الصهيوني وكل من الإمارات والبحرين في أيلول/سبتمبر 2020، عندما أطلق عليها الرئيس الأميركي دونالد ترامب اسم "اتفاق أبراهام".
أصل الفكرة الإبراهيمية، التي رافقت كل اتفاقيات السلام والتطبيع السابقة، برزَ بعد وصول "إسرائيل" إلى ذروة قوتها العسكرية والدعم الغربي لها، وإدراك قادة الغرب والصهيونية أنَّ ذلك غير كافٍ لإبقائها في قيد الحياة واستمرار وجودها. وهذا يحتاج إلى تغيير عميق في ثقافة النخبة الحاكمة والشعوب المحكومة، يكون الدين أحد مكوّناته. فجاء التطبيع الثقافي لترسيخ وجود "إسرائيل" في عقول العرب وقلوبهم، بعد ترسيخ وجودها في أرض الواقع.
وكانت الفكرة الإبراهيمية تطويراً للتطبيع الثقافي ليأخذ بُعداً دينياً اتَّخذ منحىً عملياً منذ مطلع الألفية الثالثة، عندما أرسلت جامعة هارفارد الأميركية فريقاً من الباحثين المتخصّصين إلى منطقة الشرق الأوسط بإيعاز وتمويل من الأوساط الصهيونية والإدارة الأميركية، في محاولة لاختبار فرضية وضع "إبراهيم" أداةً لحل الصراع العربي – الإسرائيلي لمصلحة "إسرائيل"، وإمكان البحث عن المشترَك الدينيّ وتوظيفه في قَبول فكرة التعايش معها كدولة طبيعية في المنطقتين العربية والإسلامية، ومن أجل السيطرة على دول المنطقة وثرواتها. وبذلك، تكون الفكرة الإبراهيمية بوتقةً لصَهر الأديان السماوية الثلاثة، لتَنتج منها ثقافةٌ جديدة تسمح بالتعايش مع "إسرائيل"، كدولة مركزية في المنطقة، وتسمح بالتعايش مع أميركا، كدولة مهيمِنة على المنطقة، وفق مفهومَي السلام الإسرائيلي والإسلام "الأميركاني".
السلام الإسرائيلي، الذي جاءت "اتفاقات أبراهام" لترسيخه، هدفه تثبيت وجود "إسرائيل" دولةً طبيعية ومركزية في الوطن العربي– الإسلامي. وهذا ما أكّده رون بونداك، المؤرّخ الإسرائيلي وأحد مفاوضي اتفاقية أوسلو في كتابه "قناة التفاوض السرية.. أوسلو: القصة الكاملة"، بقوله: "العملية السياسية، والسلام في حدّ ذاته، مجرد هدفَين مرحليَّين. فالغاية النهائية كانت ولا تزال استكمال مسار إنشاء إسرائيل الذي بدأ بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يحمل الرقم 181".
والسلام الإسرائيلي هو سلام من منطلق القوة، وفق مفهوم "الجدار الحديدي"، الذي وضعه الزعيم الصهيوني زئيف جابوتنسكي، ومضمونه "أنَّ السلام يتحقّق بعد أن يشجّ الفلسطينيون رؤوسهم بلا جدوى في الجدار الحديدي. حينها سيُقِرّون بوجود إسرائيل، ويتفاوضون معها على أساس الواقع الموجود"، ويتم حلُّ القضية الفلسطينية، وفق هذين المفهومين، عبر التسليم بالأمر الواقع الإسرائيلي والتعايش مع الاحتلال من دون استرجاع الحقوق الوطنية الفلسطينية، أو جزء منها، في الحد الأدنى.
والسلام الإسرائيلي هو سلام في مقابل السلام الذي طرحه نتنياهو، بخلاف رؤية المبادرة العربية للسلام، التي طرحت شعار "الأرض في مقابل السلام". لذلك، قال نتنياهو بعد اتفاقية التطبيع مع الإمارات، مؤكداً هذا المفهوم الإسرائيلي للسلام، "إنَّ اتفاقية التطبيع مع الإمارات تُنهي مبدأ الأرض في مُقابل السلام، والذي تعتمد عليه عملية التسوية السياسية في المنطقة". ووضّح هذه الرؤيةَ للسلام الإسرائيلي رئيسُ الكنيست السابق ياريف ليفين، بقوله: "إنَّ السلام لا يتحقق من منطلق بيع أرض الوطن، لكن فقط من خلال المصلحة المشتركة والمتبادلة في السلام".
والسلام الاقتصادي هو مفهوم إسرائيلي آخر للسلام، كما جاء في خطة شمعون بيريز للشرق الأوسط الجديد، وكما جاء في عنوان صفقة القرن: "سلام من أجل الازدهار". ومجملها رشوة اقتصادية للفلسطينيين، مضمونها الغذاء في مقابل الوطن، والتسهيلات الحياتية في مقابل "الدولة". وهدفها التعايش مع الاحتلال عن طريق تحسين ظروف الحياة تحت الاحتلال. أمّا الخُطّة، بالنسبة إلى العرب، فهي طريق للسيطرة الاقتصادية الإسرائيلية على الاقتصاد العربي، وإيجاد شرق أوسط مزدهر اقتصادياً، يكون الاقتصاد الإسرائيلي هو المركز فيه. ومشروع مدينة "نيوم"، للأمير محمد بن سلمان، أحدُ نماذجه.
و"الإسلام الأميركاني"، الذي جاءت "اتفاقية أبراهام" لترسيخه، له وجهان متناقضان شكلاً، ومتوافقان جوهراً. الوجه الأول تحدّث عنه سيد قطب في كتابه "دراسات إسلامية"، عام 1952م، تحت عنوان "إسلام أميركاني"، في قوله: "الإسلام الذي يريده الأميركان وحلفاؤهم في الشرق الأوسط ليس هو الإسلام الذي يقاوم الاستعمار، وليس هو الإسلام الذي يقاوم الطغيان". وأضاف أنه ليس هو الإسلام الذي " يُعلّم الشعوب أن إعداد القوة فريضة، وأنَّ طرد المستعمر فريضة". إذاً، هو نمط جديد للإسلام تريده أميركا من دون ثورة على الاستبداد والطغيان، ومن دون مقاومة للاحتلال والاستعمار، ومن دون تصدٍّ للظلم والفساد؛ إسلام يَخضع معتنقوه للهيمنة الأميركية طواعيةً، ويتعايش أهله مع الاحتلال بمحض إرادتهم؛ إسلام يزرع في النفوس القابلية للاستعمار، ويغرس في العقول الرضى بالاستحمار، ويروّض السلوك على الخضوع للاستكبار؛ إسلام يتخذ من "الفكرة الإبراهيمية" المُحرَّفة مدخلاً للاعتراف بـ"إسرائيل" دولةً طبيعية، تستمدّ شرعيتها من الدين، ويكون انتماؤها زُوراً إلى سيدنا إبراهيم، عليه السلام.
"الإسلام الأميركاني" بوجهه الآخر هو الإسلام التكفيري المتوّحش، الذي أشار إليه سيد قطب بأنَّ الإسلام الذي تريده أميركا هو :" الإسلام الذي يقاوم الشيوعية"، بمعنى الإسلام الذي توظفه أميركا في صراعاتها مع الآخرين لخدمة أهدافها الاستعمارية، وهو الإسلام المتوحش الذي يكون حاضراً أينما تحضر مصالح أميركا، كما حضر سابقاً في أفغانستان لقتال الجيش السوفيتي أثناء الحرب الباردة، لاستنزاف الاتحاد السوفيتي وإضعافه، وكما حضر لاحقاً في سوريا أثناء "ثورات الربيع العربي" لاستنزاف الدولة السورية وإضعاف محور المقاومة لصالح الكيان الصهيوني، وهو الإسلام الذي يحوّل الصراع بين الأمة وأعدائها المركزيين (أميركا وإسرائيل)، إلى صراع داخل الأمة بعناوين مذهبية وقومية وسياسية، وهو الإسلام الذي يلتقي فيه التطرف الديني والتعصب المذهبي والجمود الفكري والاستبداد السياسي في بوتقةٍ واحدة.
السلام الإسرائيلي أخطر من الحرب وأسوأ من القتل.. سلامٌ يُؤبد الخلل في موازين القوى الإقليمية، ويُخلّد الصدع في معايير العدالة الدولية، ويُثبّت الظلم في انتهاك الحقوق الوطنية.. سلامٌ مفروض بقوةِ العدو وغطرسة أميركا، وبلغةِ الإجبار ومنطق الاستكبار... والإسلام الأميركاني أخطر من الإلحاد وأسوأ من الشرك.. إسلامٌ يُؤبّد الخلل في فهم الإسلام الحقيقي، ويُخلّد الصدع في روح الأمة الإسلامية، ويُثبّت الظلم لتاريخ الإسلام المُشرق... إسلام مفروض بهيمنة الغرب وعنجهية أميركا، وبلغةِ التسامح ومنطق التصالح.
ومقابل السلام الإسرائيلي لابد من السلام الفلسطيني، القائم على عودة الحق كاملاً لأصحابه، بعودة أرض فلسطين إلى شعبها، وعودة شعب فلسطين إلى أرضه.. السلام القائم على إزالة وجود الكيان الصهيوني، وتفكيك المشروع الاستيطاني الصهيوني، وعودة الغزاة المستوطنين إلى البلاد التي هاجروا منها... ومقابل الإسلام الأميركاني بوجهيه: الاستسلامي التطبيعي والدموي التكفيري. لابد من الإسلام الحضاري القائم على الوسطية والاعتدال، بجوهره الإنساني، وطبيعته الثورية، ليعود الإسلام من جديد روحاً للأمة، وجوهر هويتها، ومحرك تاريخها، وصانع مجدها، ومصدر حيويتها، ومُجدد فكرها، ومفجر ثوراتها.