"إسرائيل" من الردع إلى الردح
تأثير عملية "درع وسهم" سيبقى قصير المدى، كما تأثير العمليتين السابقتين في 2019 و2022، إذ لم يتغيّر خلالهما وبعدهما التعاطي الإسرائيلي الأمني الإستراتيجي مع قطاع غزة.
الرَدح في بعض اللهجات العربية الدارجة أو الشعبية هو علو الصوت والكذب والافتراء والتضليل. حتى وقتٍ قريب، كنا نظن أن هذا "الفن القبيح" فِعلٌ يمارسه بعض "الردّاحون" العرب حصراً، ثم تبيّن أنه هِواية مفضلة لدى بعض قادة "إسرائيل"، وخصوصاً بعد انجلاء غبار المواجهة مع المقاومة، والظاهر أنها تسرّبت إليهم بفعل العلاقة الطيبة مع بعض زعامات العرب.
خلال أقل من عام، وجدت "إسرائيل" نفسها مرة أخرى في مواجهة جولة جديدة من العدوان على قطاع غزة. لم تكن عملية "درع وسهم" مختلفة عن جولتي التصعيد السابقتين: تشرين الثاني/نوفمبر 2019 وآب/أغسطس 2022، إذ ركّزت "إسرائيل" في حملتها العسكرية هذه على حركة الجهاد الإسلامي، وسعت لجولةٍ قصيرة معها، مع حرصها على تجنّب الانزلاق إلى مواجهةٍ مباشرة وواسعة مع حركة حماس.
كانت الجولات الثلاث السابقة، وفق النظرة الإسرائيلية، عمليات "ردع عسكري"، لكنها كانت بلا هدف سياسي، إذ واجهت "إسرائيل" دائماً صعوبة في استكمال عملياتها العسكرية في وقت قصير وترجمة فعلها العسكري إلى إنجاز سياسي، وذلك لغياب الأهداف السياسية وانحصار الرغبة الإسرائيلية، غالباً، في الحصول على "الهدوء في مقابل الهدوء".
في المحصلة، فإن تأثير عملية "درع وسهم" سيبقى قصير المدى، كما تأثير العمليتين السابقتين، إذ لم يتغير خلالهما وبعدهما التعاطي الإسرائيلي الأمني الإستراتيجي مع قطاع غزة.
مع ذلك، تتعالى أصوات "الانتصار" من داخل "إسرائيل" في مواجهة هجمات المقاومة من الجنوب والشمال. ومع تصاعدها، يختار نتنياهو ما اعتاد فعله دائماً، وهو الهروب من الهزيمة إلى التباهي "والردح": "وجّهنا ضربات فادحة إلى غزة. أعتقد أن الرسالة لم تصل إليهم وحدهم فحسب، بل وصلت أيضاً إلى جهات أخرى في المنطقة بعدما شهدوا قدراتنا. إذا كانت هناك حاجة لتجديد عملية الردع، فسنقوم بذلك. لقد قمنا بتغيير المعادلة". قال مُفاخراً خلال فعاليات مسيرة الأعلام.
منذ عام 2009، حدثت 9 جولات من المواجهات مع المقاومة في غزة. وبعد كل جولة، كان رؤساء وزراء الاحتلال ووزراء دفاعهم يتباهون بأن "منظمات الإرهاب تلقت ضربة قاضية وهُزمت"، ثم ما تلبث أن تمر فترة قصيرة حتى تعود الصواريخ بالانهمار على مستوطنات الداخل الفلسطيني المُحتل بشكل خاص، وعلى مستوطنات غلاف غزة بشكل خاص.
في الواقع، يدرك كثير من الإسرائيليين أن عملية "درع وسهم" ضد غزة لم يكن لديها إلا هدفٌ واحد هو إنقاذ حكومة نتنياهو التي تتلاطمها أمواج التناقضات والاختلافات الداخلية، وأنها لم تكن أكثر من عملية إلهاء عن المحاكمة والاحتجاجات التي تجري ضده. كان يعرف ذلك جيداً. لذا، لجأ إلى استغلال قوة "الجيش" بشكل ساخر لإنقاذ حكومته.
منذ أن بدأت عملية "درع وسهم" باغتيال ثلاثة من قادة الجهاد الاسلامي، انتظرت "إسرائيل" الرد الذي لم يأتِ إلا بعد مرور أكثر من 30 ساعة، تم خلالها تعطيل الحياة في مستوطنات ما يسمى غلاف قطاع غزة بشكل كامل، وتعطلت الدراسة والعمل في مستوطنات المنطقة، وفتحت الملاجئ في مستوطنات الداخل المحتل من بئر السبع حتى وسط فلسطين المحتلة نتيجة الهستيريا التي أصابت المجتمع الإسرائيلي.
في الواقع، تصرفت الجهاد الإسلامي بحكمة من خلال استنفار "إسرائيل" ليوم كامل دون رد. بالنسبة إلى الحركة، كان قراراً حكيماً أثبت مقدرتها على اللعب بوعي الإسرائيليين، فالحرب النفسية في جوهرها هي التوظيف المُحكم للدعاية والعمليات النفسية بغرض التأثير في آراء العدو ومشاعره ومواقفه وسلوكه، بما يساعد في إنجاز الأهداف الوطنية.
واللافت أنّ حركة الجهاد الإسلامي عَرفت بالضبط ما الذي يثير الجمهور الإسرائيلي ويؤثر فيه، ولم تمتنع عن الاستفادة من هذه المعرفة، بل أملت قواعد اللعبة بشكل شبه كامل، فكان رُبع "إسرائيل" على الأقل مشلولاً، في حين انشغل الباقون بالبحث في السيناريوهات المُحتملة لردّ الحركة.
ومع أنّ نتنياهو سَوّقَ لجمهوره أن "درع وسهم" كانت عملية "إلزامية" لم يكن ثمة مناص منها لضرب الجهاد الإسلامي في ضوء سلوكها "المتمرد" في السنوات الأخيرة، إلا أنَّ جزءاً كبيراً من الجمهور الإسرائيلي كان مقتنعاً بأنها كانت مجرد عملية أخرى في سلسلة من العمليات المتعددة من دون إنجاز خاص يُذكر في ظل الوضع القائم.
لم تُعلن "إسرائيل" عن أي إجراء من شأنه أن يغير الواقع أو قواعد اللعبة بشكل كبير فيما يتعلق بغزة ويجلب سنوات من الهدوء، بل شرعت بدلاً من ذلك في استهداف مجموعة من قادة الجهاد الذين قالت إنهم قادوا إطلاق النار من غزة باتجاه المستوطنات الإسرائيلية في الآونة الأخيرة.
إلى متى سيستمر الهدوء؟ هذا السؤال ليست له إجابة، ولا يعتمد في الواقع على العملية العسكرية أو نتائجها. صحيح أنَّ "إسرائيل" باغتت الجهاد بضربة مؤلمة باستهدافها القادة الثلاثة بالتزامن، وتركيزها، مع استمرار المواجهة، على تعميق الإنجاز بمواصلة الإضرار بها، ثم إجراء مفاوضات عبر استخدام النار للتوصل إلى وقف لإطلاق النار، واستمرار التأكيد على إخراج حماس من المعركة، إلا أن حركة الجهاد الإسلامي، التنظيم ذا "الفلسفة الكفاحية الخاصة"، ليست حزباً سياسياً، وليست سُلطة حاكمة مثل غيرها. لهذا السبب، لا يمكن البناء على الردع ضدها، والجولة المقبلة معها هي مسألة وقت فقط، ولا يبدو من التجربة أنها ستستغرق وقتاً طويلاً.
ظلَّ "الهدوء يُقابَلُ بالهدوء" هدفاً متكرراً للعمليات العسكرية التي شنتها "إسرائيل" ضد حركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة، من دون السعي لتغيير الوضع الإستراتيجي في جنوب فلسطين المحتلة. تسعى "إسرائيل" للحصول على تهدئة أمنية طويلة المدى على أساس الردع العسكري، فيما تتجاهل حقيقة أن الردع الذي تزعم أنه تحقق هو أمر بعيد المنال.
من وجهة نظر الجهاد الإسلامي التي حدّدت متى تنتهي الجولة ومدى حدّتها، فإن خوض عدة أيام من القتال ضد "جيش" الاحتلال الإسرائيلي والوقوف بحزم ضد ترسانته العسكرية وإظهار القدرة على إطلاق قذائف صاروخية في عمق "إسرائيل" حتى قبل لحظات من سريان وقف إطلاق النار هو جوهر "المقاومة" وروحها.
يرتكز مفهوم عقيدة الردع على شقين؛ الأول هو توفر قدرات عسكرية كبيرة. ولا شكَّ في أن لدى "إسرائيل" الكثير منها، والآخر هو أن يعرف العدو أنك لا تخشى استخدام القوة ضده.
اليوم، تدرك فصائل المقاومة جيداً الاعتبارات التي توجه سلوك "إسرائيل"، وهي تعلم أنها لن تكسر الأدوات وقواعد اللعبة، وأن لديها قيوداً على استخدام القوة؛ فبايدن ليس دونالد ترامب الذي كان من أشدّ المؤيدين لها، وليس فيها حكومة مستقرة، ورئيس وزرائها يحمي ظهره باللجوء إلى الحرب، وليس لديها رغبة أو مصلحة حقيقية في الدخول في مواجهة شاملة، إذ إنَّ استخدام "اليد الثقيلة" قد يؤدي إلى مواجهة واسعة شاملة تتسبّب بخسائر فادحة لها.
حقيقة أنّ المؤسسة الأمنية الإسرائيلية لا تغير "المفهوم التقليدي" في مواجهة القطاع حتى بعد عقود من تدهور الوضع الأمني المستمر في جميع الساحات، تثير تساؤلات عن فعالية هذه النظرية، وتلقي الضوء على الطبيعة الإشكالية لسياسة الردع التي تتباهى بها "إسرائيل" اليوم.
بعض النجاحات التكتيكية التي تفاخرت بها "إسرائيل" في الإجراءات العملياتية في الأيام القليلة الماضية ليست ردعاً، وكل الإجراءات التي تتخذها ترسل رسالة واضحة مفادها أن هناك جولة أخرى مقبلة، وربما جولات، لكن السؤال الأكثر صعوبةً يتعلق بمعادلة الردع: كم مواجهة تلزم حتى يتحقق الردع؟ كم يلزم قصف غزة لإحلال الهدوء لمدة عامين أو ثلاثة؟
لهذا السبب، يحتاج صُنّاع القرار في "إسرائيل" إلى فهم أنّ الردع الذي يتباهون به ليس إلا تهديداتٍ وخطباً وردحاً فارغاً. وإن سارت الأمور بهدوء في مسيرة الأعلام، وفق ما أرادت حكومة الاحتلال، فإن الجميع يعلمون أن الجولة المقبلة مع المقاومة في غزة هي مسألة وقت فقط، وربما ليس الكثير من الوقت.
إنّ التهديد بمواجهة متعددة الساحات على جبهات إضافية من شمال فلسطين والضفة الغربية لم تتمّ إزالته بعد، وعملية واحدة صغيرة في غزة لا تشير بالضرورة إلى انفصال بين الساحات.
إنّ حالة التأهب الأمني الشديد طوال أيام مسيرة الأعلام تتناقض مع تصريحات "الانتصار الإسرائيلي" في جولة القتال الأخيرة في قطاع غزة، وحالة التوتر الذي ظهرت في القدس على خلفية مسيرة الأعلام، والمشاورات الأمنية المتعددة التي سبقتها، تشهد على حقيقة أن "إسرائيل" ليست متأكدة إطلاقاً من انتصارها، ولا تتصرّف تصرّف المنتصر، بل تخشى رد فعل عنيفاً من قطاع غزة، ما قد يعيد التصعيد العسكري في المنطقة إلى نقطة البداية.