إردوغان يطمح إلى دور لتركيا بعد حرب غزة

لا شكّ في أن الرئيس التركي فقد الكثير من شعبيته لدى الشباب العربي بعدما تلا فعل الندامة وانضمّ إلى قافلة المطبعين مع الكيان، إلا أنه سيسعى إلى استغلال علاقته بحماس من أجل أن يعوّم دور تركيا، فتكون حاجة إقليمية ودولية، إن استطاع إلى ذلك سبيلاً.

  • إردوغان فقد الكثير من شعبيته بعدما انضمّ إلى قافلة المطبعين مع الكيان.
    إردوغان فقد الكثير من شعبيته بعدما انضمّ إلى قافلة المطبعين مع الكيان.

أحدثت عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 ارتباكاً شديداً لدى القيادة التركية التي كانت قد رتبت مشاريعها بعد انتخابات رئاسية وبرلمانية صعبة بعد عقدين من الحكم.

أكثر الرئيس من الوعود على الصعد كافة، أولها إنقاذ الاقتصاد المتهاوي الذي كان السبب الأساسي في انخفاض شعبيته، إضافة إلى أسباب عديدة، ليس أقلها تفرده في اتخاذ القرارات والصراع مع المكون الكردي والخلافات مع الولايات المتحدة حول سياسته الخارجية ومحاولاته أخذ مسافة استقلالية في القرارات بعيداً من الغرب وأكثر تقارباً مع روسيا، خدمة لمصالح تركيا كما يراها.

وكان قد خرج بمشروع تفصيلي سُمي "قرن تركيا" حاول انطلاقاً منه إعلان سياسة خارجية تهدف إلى إصلاح علاقات بلاده مع محيطها الإقليمي، وإعادة تشكيل علاقاتها مع الغرب من منظور الواقعية الجيوسياسية، إلا أن ما أحدثته الحرب في غزة في إثر عملية طوفان الأقصى أدى إلى اضطرابات جديدة في العلاقات التركية الإسرائيلية بعدما كان عام 2023 بمنزلة انتقال إلى المرحلة الجيدة من إستراتيجية تركيا للتقليل من عداواتها من أجل زيادة الأصدقاء.

كانت الجهود الدبلوماسية التي بذلتها تركيا لإدانة الهجمات الإسرائيلية في غزة واضحة، إلا أنها لم تسفر عن نتيجة لتحسين الوضع الإنساني. تطور الموقف التركي بشكل ملموس باتجاه ترك مساحة الحياد نحو دعم الموقف الفلسطيني وإدانة الاحتلال.

اتهم إردوغان في اجتماع حزبه "إسرائيل" بقتل المدنيين والأطفال والنساء، واعتبرها جرائم ضد الإنسانية، واعتبر أن حماس ليست منظمة إرهابية، بل هي حركة تحرير تقاتل من أجل حماية أرضها ومواطنيها، وطالب بضرورة محاكمة نتنياهو، واعتبر ما يجري جريمة حرب، لكنه لم يقدم أي خطوة عملية باتجاه تقديم شكوى لمحكمة العدل الدولية، رغم أن بعض الهيئات الحقوقية فعلت ذلك.

قوبلت تصريحات إردوغان بشأن حماس بردود فعل سلبية من العديد من الدول الغربية، وأدت إلى تراجع العلاقات مع "إسرائيل". لا شكّ في أن خطابه كان موجهاً إلى الأحزاب التركية التي انتقدت موقف حزب العدالة والتنمية، والتي انتقدت "إسرائيل" بشدة، وتوقعت من تركيا فعل المزيد من أجل غزة وسكانها، ولا سيما أن حزب العدالة والتنمية الحاكم وإردوغان ربطتهما علاقة وثيقة مستمرة بحماس طيلة السنوات الأخيرة، لكن بقي الموقف التركي ضمن إطار المواقف الخطابية والسياسية من دون أي إجراءات عملية.

حاول إردوغان البقاء حذراً ومتوازناً. وعندما أثبتت الجهود الدبلوماسية لأداء دور الوسيط وبناء آلية ضامنة جديدة عدم فعاليتها، وفشلت الجهود المبذولة للتوصل إلى وقف لإطلاق النار، اتخذ إردوغان جانباً للدفاع عن حماس من أجل أداء دور رئيسي في مستقبل المنطقة عندما ينجلي الغبار، وتحول نحو تحديد مسؤولية "إسرائيل" في المأساة في غزة، وبدأ البحث عن سبل لمعاقبتها في المجتمع الدولي، ما يتماشى مع الدور الذي تريد تركيا أن تؤديه في السياسة الإقليمية والدولية. 

هذه المواقف كانت في الوقت عينه تتماشى مع الاحتجاجات المختلفة ضد "إسرائيل" في جميع أنحاء تركيا، ومع الاعتصامات والحملات لوقف القصف الإسرائيلي على غزة، والدعوات إلى مقاطعة البضائع الإسرائيلية. 

عداء في الخطاب وصداقة في التجارة 

تبدو الطبيعة المرنة لسياسة إردوغان الخارجية مدفوعة باعتبارات سياسية داخلية، وهي تسلط الضوء على التحديات المتمثلة في الحفاظ على توازن دقيق بين استخدام الخطاب المؤيد للفلسطينيين والحفاظ على العلاقات الاقتصادية مع "إسرائيل".

يثير هذا التوازن تساؤلات حول مدى اتساق سياسة إردوغان الخارجية والتاريخ المتوتر للعلاقات التركية الإسرائيلية. تُعَد "إسرائيل" شريكاً تجارياً بالغ الأهمية وسوقاً مهمة للصلب والسيارات والمجوهرات والملابس التركية. وقد بلغت الصادرات التركية إلى "إسرائيل" 7.03 مليار دولار عام 2022. 

وعلى الرغم من انتقادات إردوغان المستمرة لـ"إسرائيل"، فإن تركيا تواصل التجارة معها. كذلك، تستمرّ سفينة تابعة لشركة بوراك إردوغان، نجل إردوغان، بإرسال الشحنات إلى "إسرائيل". وكانت أصوات حزبَيْ "العدالة والتنمية" الحاكم وحليفه "الحركة القومية" قد أسقطت مقترح بعض أحزاب المعارضة بتدقيق البرلمان في السفن التجارية التي تتجه من تركيا إلى "دولة" الاحتلال خلال الحرب.

ظلَّت العلاقات الاقتصادية بين "إسرائيل" وتركيا قوية، ونمت في السنوات الأخيرة، على الرغم من الخلافات السياسية العديدة بين البلدين في الماضي. لقد زاد حجم التجارة الإسرائيلية التركية 6 أضعاف بين عامي 2002 و2022. طيلة هده الفترة، كان حزب العدالة والتنمية بزعامة إردوغان يحكم تركيا، وكانت "إسرائيل" الشريك العاشر الأكثر أهمية لتركيا عندما يتعلق الأمر بالصادرات على أنواعها، على الرغم من التوترات الأخيرة. 

يدّعي وزير الاقتصاد التركي أن التجارة تأثرت بشكل كبير، ولا سيما تجارة النفط، وهذا طبيعي بسبب الحرب، وليس بسبب موقف تركيا. يمكن القول إنّ تركيا آثرت اتخاذ موقف شبيه ببعض الدول العربية التي لها علاقات مع "إسرائيل"، إذ استمرت الأعمال التجارية رغم الحرب على غزة، وكان موقفها حيادياً.

تركيا تعمل لدورها لما بعد حرب غزة 

كان الرئيس إردوغان قد أعلن أن بلاده مستعدة لتولي المسؤولية مع دول أخرى في الهيكل الأمني الجديد الذي سيتم إنشاؤه بعد انتهاء الحرب في غزة، بما في ذلك "آلية الضامنين" التي اقترحتها أنقرة في بداية الحرب. وكان رئيس الاستخبارات إبراهيم قالن قد عقد اجتماعاً في تركيا مع قادة حركة حماس خلال الأسابيع الأخيرة، وللمرة الرابعة، في الدوحة وأنقرة وإسطنبول. 

وشهدت اللقاءات تسليم "حماس" طلبات من عدد من الدول للإفراج عن أسرى تحتجزهم، وأن الأخيرة نفّذت بالفعل تلك الطلبات التي قال قالن إن تنفيذها سيساعد في الجهود المبذولة، وبخاصة من جانب تركيا، لوقف إطلاق النار والسماح بوصول المساعدات إلى سكان غزة.

تسعى تركيا لأداء دور محوري في جهود إنهاء الحرب، من خلال عرض دورها كوسيط سلام بين "إسرائيل" وحماس، وتسعى أيضاً إلى إبداء استعدادها للانخراط في الترتيبات الأمنية المستقبلية في غزة بعد الحرب، وتأمل أن يكون لها دور في الترتيبات السياسية والأمنية المرتبطة بإدارة قطاع غزة ما بعد انتهاء الحرب، محاولة العمل على مسار المصالحة الفلسطينية الداخلية، تجاوباً مع ما يطرحه المجتمع الدولي والعديد من مراكز البحث بالحديث عن مرحلة ما بعد الحرب الإسرائيلية على غزة ومن سيحكمها. كما أنها تطمح إلى أداء دور في الإعمار، وترى أن الإسرائيلي والأميركي يمكن أن يشجّعا دورها.

تحاول تركيا الاستفادة من كونها على علاقة مع "إسرائيل" رغم كل الخطابات الشكلية التي أطلقها إردوغان، وترى أن علاقتها بحماس تؤهلها لأداء دور الوسيط. لا شكّ في أن على تركيا أن تتحقق من الرأي العام الفلسطيني في الأراضي المحتلة، أي في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، والذي لا يتطابق مع مشاريع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي، إذ يؤكد استطلاع الرأي الأخير الذي قام به المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية أن رأي الشارع الفلسطيني منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر إلى اليوم في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة يثبت أن أي خطط يجري إعدادها لا يمكن أن تتوفر فيها عوامل النجاح من دون الانتباه لنبض الشارع الفلسطيني تحت الاحتلال من الآن فصاعداً، ولا يمكن تجاهل حماس على الإطلاق، فقد فرضت نفسها لاعباً مهماً في الساحة في المرحلة المقبلة، وصارت شعبيتها أعلى بكثير في الضفة الغربية منها في غزة. ولعل ذلك مفهوم بعد المعاناة الكبيرة التي تتحملها غزة.

ومن الواضح عدم نجاعة سياسة الحديث مع السلطة الوطنية الفلسطينية بشكلها الحالي فقط، فقد تجاوزتها كل من حماس والقوى الثالثة في المجتمع الفلسطيني. أما الحديث عن دولة فلسطينية، فأصبح غير ممكن بسبب الاستيطان.

يبدو أن نبض الشارع الفلسطيني مع حرب غزة ومعاناتها يتجه إلى أن المقاومة هي الطريق الوحيد، والأمر لم يكن وارداً قبل 20 عاماً، ما يعني عدم الاقتناع بأن حل الدولتين بحسب أوسلو الذي تطرحه تركيا أتى بنتيجة، وأن موقف إردوغان الكلامي من حرب غزة أثار نقمة شعبية فلسطينية بعدما كانت تعتبره حليفها الإقليمي والإسلامي بوجه التخاذل العربي.

لا شكّ في أن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان فقد الكثير من شعبيته لدى الشباب العربي بعدما تلا فعل الندامة وانضمّ إلى قافلة المطبعين مع الكيان، إلا أنه سيسعى إلى استغلال علاقته بحماس من أجل أن يعوّم دور تركيا، فتكون حاجة إقليمية ودولية، إن استطاع إلى ذلك سبيلاً.