أيرلندا الشمالية: 100 عام على التقسيم وفشل في إزالة المتاريس السياسية
انتهز رجال الدين من مختلف الطوائف فرصة الاحتفال بالذكرى المئوية الأولى لتقسيم أيرلندا الشمالية، فبادروا إلى إقامة قدّاس ديني يجمع كل الأحزاب السياسية علّها تساهم في إزالة المتاريس السياسية.
ارتأت الكنائس الأيرلندية أن تستخدم سلطتها الروحية لجمع الأطراف المتصارعة على الساحة الأيرلندية. تدرك الكنائس حجم المخاطر التي تمرّ فيها أيرلندا الشمالية بعد خروج المأزق الأيرلندي من مدار الاستقطاب التاريخي، واكتسابه بُعداً آخر يتمثّل بـ"البريكست".
انتهز رجال الدين من مختلف الطوائف فرصة الاحتفال بالذكرى المئوية الأولى لتقسيم أيرلندا الشمالية، فبادروا إلى إقامة قدّاس ديني يجمع كل الأحزاب السياسية علّها تساهم في إزالة المتاريس السياسية بين الجبهات المتصارعة. اجتهدت الكنائس في احتواء الأزمة المتفاقمة، فوجّهت دعوة إلى كبار المسؤولين المعنيين بالشأن الأيرلندي من أجل حضور قدّاس ديني ذي توجه تصالحي وجامع بين كل الأطراف.
تُعتبر أيرلندا الشمالية، منذ استقلال جمهورية أيرلندا قبل مئة عام، نقطةَ تجاذب واشتباك بين أبناء المجتمع الواحد في ظل خلاف عميق بين الوحدويين (البروتستانت) الذين يدافعون عن انتمائهم إلى المملكة المتحدة والجمهوريين ذوي الأغلبية الكاثوليكية، والمؤيدين إعادةَ توحيد المقاطعة مع الوطن الأم في جمهورية أيرلندا. الخلافات بين الأيرلنديين اتَّخذت عدة أوجه، لعل أبرزها الصراع الدموي الذي خلّف نحو 3500 قتيل، وانتهى بإبرام اتفاق سلام عام 1998، وهو ما يُعرَف باتفاقية الجمعة العظيمة.
تدخُّل الكهنة لوأد الفتنة ولبناء جسر تواصل بين أبناء الوطن الواحد لم يُثمر نجاحاً، بعد أن فشلت جهودهم في مخطط جمع الأطراف تحت سقف كنيسة سانت بطرس البروتستانتية. لم تسعفهم في وصل ما انقطع بين الأيرلنديين حتى في دعوتهم إلى الصلاة تحت عنوان الأمل والتأمّل في مدينة أرما Armagh، بسبب ما لها من مكانة دينية عند الأيرلنديين، بحيث تُعَدّ العاصمة الدينية لأيرلندا.
قادة الكنائس اختاروا بعناية طقوساً دينية جامعة بين المذاهب الدينية المتعددة، من أجل استقبال الزعماء السياسيين الذين حضروا إلى جانب مئة وخمسين شخصية، بينها رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، ووزير خارجية أيرلندا سايمون كوفين، والوزير الأول في أيرلندا الشمالية بول غفين، وزعماء الأحزاب المحلية الأيرلندية.
لكن ربما فات عن أذهان قادة الكنائس تجنب عبارات خلافية بين الأيرلنديين، فوقعوا في فخ إرضاء طرفي الصراع، عندما تضمَّنت الدعوة الكنسية عبارة "الذكرى المئوية لتقسيم أيرلندا الشمالية وإنشائها". عبارة "إنشاء أيرلندا الشمالية"، مع ما تتضمّن من استقطابات تاريخية، هي، في رأي البعض، لإضفاء الشرعية على بقاء أيرلندا الشمالية ضمن الحكم البريطاني. تفسير دفع رئيس جمهورية أيرلندا مايكل ديغنز إلى رفض حضور القداس الاحتفالي، الذي رأى فيه دعوة "مسيَّسة". الملكة إليزابيث الثانية، التي كان من المتوقَّع أيضاً حضورها، غابت عن الاحتفال بعد أن تلقّت نصيحة طبية بعدم السفر إلى أيرلندا الشمالية.
غياب الملكة أثار جدلاً واسعاً بشأن الأسباب المتعلقة بعدم حضورها، فضلا عن شنّ هجوم لاذع ضدها من خلال اتِّهامها بمخالفة دورها الحيادي في القضايا السياسية، والانحياز إلى جانب الوحدويين. ورجّحت صحيفة "الديلي ميل" فرضية الدواعي الأمنية لغياب الملكة إليزابيث الثانية، مستندة في ذلك إلى نشر الصحف الأيرلندية تفاصيل زيارة الملكة لبلفاست في حين رفض المتحدث باسم قصر باكنغهام التعليق على القضايا الأمنية، مؤكداً "أن جلالة الملكة وافقت على مضض على النصيحة الطبية بالراحة عدة أيام".
وزاد في الطينة بلة فيما يتعلق بالأزمة المشتعلة بشأن الاحتفال المئوي، تصريح بوريس جونسون، الذي ظهر انحيازه أيضاً إلى فكرة إنشاء أيرلندا الشمالية، عندما أعرب عن شعوره بـ"التأثر من حضوره القداس الديني المخصص لإنشاء أيرلندا الشمالية".
حزب الشين فين، الذي يمثّل الجمهوريين، غاب بدروه عن القداس الديني. وغرّدت نائبة الوزير الأول، ميشل أونيل، بالقول "لنجعل التقسيم حدثاً تاريخياً". القدّاس كشف أيضاً التباينات بين القادة الروحيين بشأن حقيقة الصراع في أيرلندا الشمالية. رئيس الكنيسة الكاثولوكية في أيرلندا، إيمون مارتن، اعتبر أن التقسيم ما زال يسبّب له "شعوراً عميقاً بالألم والحزن".
التاريخ لم يعد وحده فيصل النزاعات في أيرلندا الشمالية، بل أُضيف إليه ملف "البريكست" الذي زاد في الشرخ والاختلافات في فهم حقيقة الصراع، وما زال محفوراً في ذاكرة الأيرلنديين ما فعلته بريطانيا من ظلم لحق بهم في فصلهم عن إخوانهم في أيرلندا.
ويبدو واضحاً أن الخيارات لا تزال متباعدة بين الأيرلنديين، والاختلافات كبيرة على الهوية والدين والسياسة، فضلاً عن الخيارات الكبرى في مسألة العلاقة بالمملكة المتحدة.
ربما يكون حضور رئيس الوزراء البريطاني القداس الديني فرصة ليرى عن كثب حقيقة المتاريس الدينية والسياسية بين الأيرلنديين، وخصوصاً أنه يخوض مغامرة سياسة في اعتماد استراتيجية حافة الهاوية في مفاوضاته مع الاتحاد الأوروبي بشأن أيرلندا الشمالية.
بات واضحاً أيضاً أنّ الدور البريطاني لم يعد محبَّباً حتى إلى حلفائها الوحدويين بعد خذلان جونسون لهم في ملف "البريكست"، الأمر الذي زاد في حظوظ الجمهوريين في تحقيق مزيد من المكاسب السياسية. وها هو جيري أدامز، إحدى أبرز الشخصيات السياسية المؤثّرة في أيرلندا الشمالية، يبشّر باقتراب الاستفتاء بشأن الحدود الأيرلندية، متيقّناً من عودة الشطر الشمالي إلى الجمهورية الأيرلندية.