أوامر الاعتقال ضد نتنياهو.. تهديدٌ حقيقي أم استعراض مقصود!!
على رغم تَوقِنا جميعاً إلى رؤية المسؤولين الإسرائيليين يُدانون في قفص الاتهام، فإن قراءةً عقلانية بعيدة عن العواطف، في سياق إثارة قضية مذكرات الاعتقال وخلفياتها، كفيلة بإزالة الغشاوة وكبح فائض الآمال التي يبنيها البعض على هذا المنبر الدولي القضائي.
أُثير، في الأيام القليلة الماضية، جدلٌ واسع بشأن احتمال أن تُصدِرَ محكمة الجنايات الدولية في لاهاي مُذكرات اعتقال بحق مسؤولين كبار في "إسرائيل"، على رأسهم رئيس وزراء الاحتلال نتنياهو، ووزير حربه غالانت، ورئيس هيئة الأركان هيرتسي هليفي، بتهمة ارتكاب جرائم حرب والتجويع المُتعمد في سياق الحرب على قطاع غزة.
انقسمت الآراء بين متفائلٍ يرى هذا أمراً وارداً غير مُستبعد، ومتشائمٍ يراه ضرباً من ضروب "التفكير الحالم" غير القابل للتحقق، على الأقل وفق المعطيات والظروف الحالية التي يمر فيها النظامان السياسي والقانوني الدوليان.
وعلى رغم تَوقِنا جميعاً إلى رؤية المسؤولين الإسرائيليين يُدانون في قفص الاتهام بسبب ما ارتكبوه من فظائع بحق الفلسطينيين، فإن قراءةً مُتأنية عقلانية بعيدة عن الانفعال والعواطف، في سياق إثارة قضية مذكرات الاعتقال وخلفياتها ودوافعها، في هذا التوقيت بالذات، كفيلة بإزالة الغشاوة وكبح فائض الآمال التي يبنيها البعض على هذا المنبر الدولي القضائي أو ذاك، نتيجة حسابات متعددة.
فهل هناك فعلاً خوف حقيقي من الاعتقال، أم أنها مجرد هستيريا مصطنعة تتفاقم بفعل الاعتبارات التي تحكم المشهد الإسرائيلي؟
على رغم أن "إسرائيل" لا تعترف بالمحكمة الجنائية الدولية، وعلى رغم أن كبار المسؤولين السياسيين والأمنيين الإسرائيليين صرّحوا بأن فُرص تحقق ذلك ضئيلة جداً، وخصوصاً على خلفية المُعارضة المتوقعة من واشنطن ولندن، فإن الإحاطات الصادرة عن مكتب نتنياهو أشارت إلى أنه ومسؤول الأمن القومي الإسرائيلي، تساحي هنغبي، أجريا مُناقشات جادة بشأن هذه القضية، وأن نتنياهو بدأ بعدها "ماراثوناً" من المحادثات مع رؤساء الدول من أجل إحباط مثل هذا الإجراء.
كما أصدر وزير خارجية الاحتلال، يسرائيل كاتس، تعليماته إلى جميع السفارات الإسرائيلية في العالم من أجل الاستعداد الفوري لاندلاع موجة شديدة معادية للسامية ومعادية لليهود و"إسرائيل"، ودعاها إلى تنسيق تعزيز الأمن حول الإسرائيليين والمؤسسات اليهودية، وطلب كذلك إلى الوزير عميحاي شيكلي، المسؤول عن مكافحة معاداة السامية، التحرك بهذا الشأن.
الواضح أنه لا توجد معلومات فعلية بشأن إمكان صدور مذكرات اعتقال، ويبدو أن هذا التخوّف، في حقيقته، مبني على "شائعات" لا يُعرف مصدرها.
ويبدو كذلك، أن تحريك هذه القضية في هذا التوقيت بالذات ليس بريئاً، حيث مفاوضات الهُدنة وصفقة الأسرى في أوجها، بينما يهدد نتنياهو باجتياح رفح، بالصفقة أو من دونها، لذا ليس من المُستبعَد أن إثارة هذه القضية الآن من أطراف إسرائيلية، بالتناغم مع غمزٍ أميركي، ربما قُصد منها كبح جماح نتنياهو ومنعه من اجتياح رفح.
تعزز هذه القراءةَ الرؤيةُ الإسرائيلية المبنية على افتراض أن كريم خان، المدعي العام للجنائية الدولية، لن يقوم بمثل هذه الخطوة الدراماتيكية، من دون "ضوء أخضر"، حتى لو غير رسمي، من الطرفين الأميركي والبريطاني.
فهل يُعقل، بعد أن جمدت إدارة بادين هذا الأسبوع فقط، نيّتها فرض عقوبات على كتيبة "نيتساح يهودا" في "جيش" الاحتلال بعد ضغوط إسرائيلية شديدة، أن يكون البيت الأبيض مستعداً لمغامرة تصدر فيها أوامر اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين، وهو يعلم بعواقبها الشديدة، وخصوصاً أن البيت الأبيض أعلن، في كل المرات التي أثيرت فيها انتهاكات وتجاوزات إسرائيلية، أنه يكتفي بالتزام الحكومة الإسرائيلية معالجة انتهاكات القانون الدولي وفق الآليات القانونية المتبعة لديها!
وهل من المعقول أن تُجمد إدارة بايدن العقوبات، غير المسبوقة، ضد وحدة في "جيش" الاحتلال الإسرائيلي، وفي الوقت ذاته تتخلى عن نتنياهو وغالانت وهليفي؟ هل هذه الخطوة "منطقية" بينما يدرك الأميركيون أن إصدار مذكرات الاعتقال هذه سيصيب الحكومة الإسرائيلية بالجنون، ويضع حداً لكل مخططات الإدارة الأميركية الكبيرة للتطبيع بين "إسرائيل" والمملكة العربية السعودية، ويحرمها من مشهد الاحتفال بذلك في حدائق البيت الأبيض، وهي في أمسّ الحاجة إليه في الحملة الانتخابية الحالية الواهنة للرئيس بايدن؟
لا شك في أن التحذيرات، التي صدرت عن شخصيات سياسية إسرائيلية بارزة، من أن هذه الخطوة قد تؤدي إلى نسفٍ فوري لصفقة الأسرى، وإحباط جهود تحقيق التطبيع مع السعودية، ووقف تحويل أموال الضرائب من "إسرائيل" إلى السلطة الفلسطينية ودفعها إلى الانهيار، وصلت إلى مسمع الرئيس بايدن.
زد على ذلك أن الولايات المتحدة، وهي ليست عضواً في المحكمة الجنائية، تملك تشريعاً يسمح للرئيس بفرض عقوبات مشددة على القضاة والمدعين العامين وجميع العاملين في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، ومنعهم من دخول أراضي الولايات المتحدة والإضرار بهم مالياً.
وهدد الرئيس السابق ترامب فعلاً باستخدام هذا القانون فيما مضى، ونجح في منع إصدار مذكرات اعتقال بحق أميركيين، لكن الرئيس بايدن ألغى أمر الرئيس السابق ترامب بشأن الموضوع، فهل من المستبعد أن يقوم الرئيس بايدن الآن باستخدام هذا التشريع ضد المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي من أجل وقف مجرد التفكير في إدانة "إسرائيل"!
ثم هل يُعقل أنه، خلال الأسبوع الذي قطع فيه نتنياهو شوطاً طويلاً تجاه الحكومة البريطانية ووافق على زيارة استثنائية لقضاة بريطانيين متقاعدين رفقةَ قاضٍ إسرائيلي لمعتقلي النخبة من حماس، أن يرد رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك الجميل بمنح "الضوء الأخضر" للمواطن البريطاني كريم خان بأن يباشر في إصدار مذكرات اعتقال ضد القيادة الإسرائيلية، بمن فيها نتنياهو؟
أمّا بالنسبة إلى المحكمة الجنائية الدولية ومدّعيها العام كريم خان، فبالتأكيد لديهما نظرة وتعاطٍ مغايران حينما يتعلق الأمر بـ"إسرائيل".
فخان لبى نداء أهالي "ضحايا" طوفان الأقصى الإسرائيليين وأتى طائعاً مهرولاً ليلتقى العائلات، واستمع إليها مطولاً مع بداية الأحداث، بينما مرّ على استحياء وعجل من أجل لقاء الرئيس أبي مازن في رام الله، ولم يلتقِ أياً من عائلات الفلسطينيين، ضحايا الحرب الإسرائيلية! ناهيك بأن أغلبية المطالبات التي رُفعت إلى المحكمة من طرف فلسطينيين، أو من أطرف متعاطفة معهم أو تمثلهم، للبحث في انتهاكات إسرائيلية مُحتملة ضد الفلسطينيين، ردتها المحكمة، عبر ذرائع مغايرة، منها أنها ليست جهة اختصاص، أو أن هذه الانتهاكات لا تصل إلى مستوى جرائم حرب، أو التذرّع بأن "إسرائيل" لديها نظامٌ قضائي قوي ومستقل وقادر على المساءلة والمحاسبة، ولا حاجة إلى النظر في مثل هذه القضايا من طرف المحكمة.
وتبدّى نفاق المحكمة وتعاطيها المزدوج، في موقفها بشأن القضية التي رُفعت ضد الرئيس بوتين. ففي آذر/مارس 2023، أصدرت المحكمة الجنائية مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على خلفية قضية تتعلق بـ"نقل أطفال أوكرانيين وتهريبهم إلى روسيا"، بحيث لم تحتج المحكمة سوى إلى أسبوعين للنظر في هذه الدعوى وإصدار أمر اعتقال بحقه، في حين تقف محكمة الجنايات الدولية ساكنة مكتوفة اليدين حيال ارتقاء أكثر من 34 ألف فلسطيني، أغلبيتهم من النساء والأطفال على يد "جيش إسرائيل" وقادتها!
ولا ننسى أن هذه الخطوة تتعارض مع منطق عدم سعي المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي لتوريط نفسها مع القيادة الإسرائيلية و "الجيش" الإسرائيلي، وهي تعلم بما يترتب على تلك المغامرة من أثمان عليها وعلى العاملين فيها.
إن الهستيريا، التي عبّر عنها نتنياهو والحاشية المحيطة به فيما يتعلق بالإجراءات المحتملة ضد "إسرائيل"، وتصويرها على أنها "تعبير عن الاضطهاد المعادي للسامية، ومثال متطرف للتحيز ضد "إسرائيل" ونفاق المؤسسات القانونية الدولية"، وإثارة هذا الأمر مع قيادات أميركية وغربية، منها وزير الخارجية الأميركي بلينكن، لحث واشنطن والقيادات الغربية على التدخل من أجل منعها، بينما يُعلن البيت الأبيض رسمياً أنه "يعتقد أن المحكمة ليس لديها اختصاص لإصدار أوامر اعتقال ضد القيادة الإسرائيلية"، أمرٌ يثير التساؤل بشأن الأهداف الإسرائيلية الكامنة وراء ردة الفعل الإسرائيلية الصاخبة هذه!
والمؤكد أنه لا يمكن أن نفهم سلوك نتنياهو سياسياً وتصريحاته بشأن هذا الأمر، وعدّه احتمال إصدار مذكرات اعتقال بحق قادة "الجيش الإسرائيلي" وقادة "الدولة"، بتهمة ارتكاب جرائم حرب، بمنزلة "فضيحة على نطاق تاريخي"، إلا أنها تهدف إلى الاستعراض وتسجيل نقاط لمصلحته بين مؤيديه في الجمهور الإسرائيلي.
أمّا على المستوى الدبلوماسي فهي محاولة لتحفيز الدول الصديقة في الغرب على الضغط على المحكمة حتى لا تفكر حتى في إصدار أوامر اعتقال بحق قادة إسرائيليين.
ولا يبدو أن الموقف الإسرائيلي يُعبّر عن قلق حقيقي من إمكان إصدار أوامر اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين، ما داموا يستظلون بظل الولايات المتحدة، وما دامت الأخيرة والدول الغربية، الممولةُ الرئيسةُ لمحكمة الجنايات الدولية، تضع "إسرائيل" فوق كل قانون دولي، وتغطي عليها وعلى جرائمها، وتمدها بأسباب الغطرسة والاستعلاء.