ألمانيا تحسم موقفها في أوكرانيا وتدّعي قيادة سياسة السلام بالقوة العسكرية

بعد سنواتٍ من التقارب بين برلين وموسكو، يُشكّل تسليم الدبابات الثقيلة الألمانية إلى كييف نقطة تحوّل في الدعم الدولي لأوكرانيا.

  • ألمانيا تحسم موقفها في أوكرانيا وتدّعي قيادة سياسة السلام بالقوة العسكرية
    ألمانيا تحسم موقفها في أوكرانيا وتدّعي قيادة سياسة السلام بالقوة العسكرية

هل نجحت الولايات المتحدة بجر ألمانيا ضد موسكو بعد سنوات من التقارب بين برلين موسكو وباريس؟ الولايات المتحدة أنشأت تحالفاً عسكرياً سياسياً يضم 50 دولة في اجتماع قاعدة رامشتاين لتحديد نظام أورو أطلسي جديد، وهناك تم اقتراح تسليم دبابات متطوّرة لكسر موسكو وانتظروا قرار ألمانيا فأعطى شولتز الموافقة. 

منذ تسلّم أولاف شولتس الحكم في ألمانيا تمّ التساؤل حول من سيوجّه سياسة برلين تجاه روسيا في ظل الائتلاف القائم بين الاشتراكيين وحزب الخضر الذين يتوّلون الخارجية في ظل توجّهاتهما المتناقضة تجاه العلاقة مع موسكو. 

فكان الانقسام واضحاً حتى بين الاشتراكيين الديمقراطيين في مسألة خط نقل الغاز المثير للجدل "نوردستريم 2". وكانت وزيرة الدفاع الاشتراكية الديمقراطية ترى أن تشغيل خط الأنابيب الذي يربط بين روسيا وألمانيا يجب أن يبقى خارج الملف الأوكراني. فيما رأت الصحف الألمانية أن "مماطلة الألمان في اتخاد موقف تشكّل خطراً على استراتيجية الغرب". لكنّ شولتس أكد تمسّكه باتفاقية ألمانية أميركية وُقّعت في الصيف وتنصّ على فرض عقوبات على روسيا إذا قامت الأخيرة "باستخدام الطاقة كسلاح أو بارتكاب أعمال عدوانية جديدة ضد أوكرانيا".

كان يسود اعتقاد أن عدداً من مسؤولي الحزب الاشتراكي الديمقراطي، يفضّلون سياسة التقارب مع موسكو. وكانت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل قد عملت في سنوات حكمها وتوليها السلطة، على المحافظة على العلاقة مع روسيا، وفصل الخلافات الجيوسياسية عن المصالح الاقتصادية بين البلدين. فيما كان يرى خبراء في سياسات أوروبا الشرقية أن ألمانيا كانت دائمة التساهل مع سياسات موسكو.. 

التحوّل الكبير

في خطابه التأسيسي بعد أيامٍ من بداية الحرب بين روسيا وأوكرانيا تحدّث المستشار أولاف سولتش عن ضرورة إعادة الاعتبار إلى الجيش الألماني المُهمل منذ عقود بإنشاء صندوق خاص بقيمة 100 مليار يورو لتمويل المشتريات الضرورية. وأكد التزامه برفع ميزانية دفاع الدول الأعضاء في الناتو إلى ما لا يقل عن 2% من الناتج المحلي الإجمالي، ووعد بالدفاع عن كل شبر من أراضي دول الحلف الأطلسي. 

شولتس كان قد رفض قبل بداية العملية الخاصة الروسية مطالب روسيا بوقف توسّع حلف شمال الأطلسي (ناتو) في شرق أوروبا. وقال إنّ "انضمام دول أخرى من شرق أوروبا إلى الناتو ليس مدرجاً على الإطلاق على جدول أعمال الحلف حالياً. وتساءل ماذا تريد روسيا، متهماً إياها ضمناً بتوسيع نفوذها. وقد أثار قراره باستثمار كبير في شراء طائرات مقاتلة من طراز "أف 35" انتباه صنّاع القرار في واشنطن. فهل هو يجعل ألمانيا ملحقة بأميركا من الناحية التكنولوجية العسكرية. 

قرار إعادة ألمانيا تشغيل محطات الطاقة المغلقة التي تعمل بالفحم بسبب تقييد إمدادات الطاقة من روسيا نال موافقة حزب الخضر الذي تخلّى عن برنامجه في الإقلاع عن الطاقة الملوّثة للبيئة. في هذه الأثناء دعا رئيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي ألمانيا إلى قيادة أوروبا، وقيادة سياسة السلام بالقوة العسكرية. ورغم معارضة الجناح اليساري القوي للحزب الاشتراكي الذي يواصل كبح جماح التوجّهات العدائية تجاه روسيا، قامت ألمانيا بتسليم الأسلحة إلى مناطق النزاعات، وهو ما يتعارض مع عقيدة سياستها الخارجية القائمة بعد الحرب العالمية الثانية، وبات حزب الخضر يطالب اليوم بتسليم أسلحة ثقيلة إلى أوكرانيا في أسرع وقت ممكن.

وكانت قافلة للجيش الألماني التي تحمل أول دفعتين من دفعات صواريخ "باتريوت" الثلاث التي وعدت ألمانيا بتقديمها إلى بولندا، قد انطلقت من منطقة روستوك الألمانية على بحر البلطيق فيما يواصل الاتحاد الأوروبي بدوره دعم كييف لأنها يجب أن تنتصر في الحرب. هذا ما أكّدته وزيرة الخارجية البلجيكية التي صرّحت أن بلجيكا جمّدت أصولاً روسية ضخمة، وأن الدول الأوروبية تختلف بالنظر بحسب سياساتها الخارجية ومُيول حكوماتها، ولكن يجب عليها أن تحافظ على وحدتها في مواجهة روسيا.

الحرب في أوكرانيا تدخل منعطفات جديدة 

لم تعلن الولايات المتحدة إرسال العشرات من دبابات "أبرامز" إلّا بعد موافقة ألمانيا على إرسال دبابات "ليوبارد"، وكانت بريطانيا قد أعلنت إرسال دباباتها الحديثة من طراز "تشالنجر" إلّا أنّ عملية نقل دبابات "أبرامز" قد تستغرق أشهراً، إضافة إلى توقّع المسؤولين العسكريين البريطانيين أن دبابات "تشالنجر" لن تصل إلا مع بداية الربيع وتحديداً نهاية شهر آذار/مارس المقبل. 

نقل الدبابات الألمانية هو الأساس، فهي موجودة في أكثر من دولة أوروبية كما أن عملية تدريب الجنود الأوكرانيين على استعمال هذه الدبابات جارية في أوروبا حالياً. صرّح أحد الخبراء العسكريين الأميركيين وفي سياسة ملفتة أن الولايات المتحدة قد ترسل النسخة القديمة من دبابات "أبرامز من طراز "M1، وأن عملية وصول أكثر من 30 دبابة إلى الجيش الأوكراني تحتاج وقتاً بعد أن تتمّ صيانتها.

يبدو أنّ الهدف كان إقناع ألمانيا بإرسال دبابات "ليوبارد"، "لهذا فهناك تقدير بأن الموقف الأميركي كان استجابة للطلب الألماني بإرسال دبابات أميركية حتى توافق برلين على إرسال دباباتها. هل يمكن لدبابات "ليوبارد" وخصوصاً من طرازي "2A5" و"2A6" الحديثة، أن تغيّر قواعد اللعبة في المعارك الدائرة حالياً. يرى الخبراء العسكريون أن تدفّق العشرات من الدبابات الغربية سوف يساعد الجيش الأوكراني على التحرّك بشكل أسرع والقدرة على الصمود في أماكن إطلاق النار وقدرة على رصد أهداف العدو وإن كانت بعيدة، ما يمنح المشاة من الجنود فرصة للتقدّم".

أوضحت ألمانيا أنها تقوم بما هو "ضروري" لدعم كييف، وتسعى إلى منع "تصعيد" الصراع الذي قد يؤدي إلى "حرب بين روسيا والناتو". يبدو الإيضاح غير منطقي لأنّ تسليم هذه الدبابات لأوكرانيا قد يؤدي إلى تغيير مسار الحرب ويضع حلفاء كييف وشركاءها الأطلسيين بشكل مباشر في الصراع. 

فالإعلان عن تسليم الدبابات الثقيلة إلى أوكرانيا يُشكّل نقطة تحوّل في الدعم الدولي لكييف، لأن هذه الدبابات-كما قال الأمين العام لمنظمة حلف شمال الأطلسي "ناتو" ينس ستولتنبرغ - يمكن أن تغيّر مسار الحرب وتساعد الأوكرانيين على النصر. وإن كانت ألمانيا قلقة على علاقاتها مع موسكو وتخشى أن تعتبر موسكو ذلك بمثابة مشاركة مباشرة من جانبهم في الحرب، فقلقها في محله أما محاولتها ألّا تكون دباباتها هي الوحيدة المقدّمة لأوكرانيا، واشتراطها أن تقدّم الولايات المتحدة أيضاً دبابات ثقيلة فهي تحالفت عسكرياً وتكنولوجياً مع الولايات المتحدة وهي بداية الشراكة. 

الناتو يصبح من اليوم وصاعداً مشاركاً في الحرب، فدبابات ليوبارد الألمانية وأبرامز الأميركية ولوكلير الفرنسية وتشالنجر البريطانية تسمّى الدبابات المتعقّبة "الثقيلة"، وهي مخصّصة في الأساس للقتال عالي الكثافة، ودورها هو اختراق دفاعات العدو. وقد اعتبر وزير الخارجية الروسي لافروف أن "الغرب يأمل في هزيمة استراتيجية لروسيا حتى لا تتمكّن من التعافي لعقود"، مشيراً إلى أن ما وصفها بـ "قناعة الولايات المتحدة بتفوّقها وصوابيتها المطلقة" هما السبب في المواجهة القائمة حالياً بين روسيا والغرب في أوكرانيا.

العلاقات بين دول الغرب ترتكز على المصالح والقيم المشتركة

يُحاول بعض الخبراء الغربيين تبرير القرار الألماني بالقول إنّ تسليم الأسلحة لا يعتبر عملاً من أعمال القتال وفقاً لقانون النزاع المسلّح الذي يستند إلى عدة نصوص، من بينها اتفاقيات جنيف. لكن قانون النزاع المسلّح يكون غامضاً عندما تقوم دول بدعم دولة عسكرياً فهدا يجسّد موقفاً سياسياً يترجم عسكرياً، ولا سيما أنّ موسكو لا تعتبر ما تقوم به حرباً بل عملية خاصة لذلك سترى أن ما يجري هو حرب عليها. فلا شكّ أن في أوروبا أحزاباً تعارض بصوت خافت لكن لا يسمع صوتها وهي ليست ذات قيمة أمام قرارات الدولة، ما يطرح تساؤلات حول قوة المعارضة في أوروبا وقدراتها؟  

البعض في الغرب يحاول أن يصوّر أنّ ما يحدث ليس تصعيداً، لكنّ الواضح أن النقاشات بين الدول الغربية في رامشتاين أدّت إلى قرار إرسال الدبابات 1500 ليوبارد و300 أبرامز ولا شكّ أن منطق الحرب قد غيّر الأدوار، والمساعدات العسكرية لم تأتِ فقط من الولايات المتحدة بل من ألمانيا والدول الأوروبية. فأغلب الأوروبيين يعتقدون أن المساهمة ضد حرب روسيا في أوكرانيا مبرّرة ولا توجد قوة سياسية فعّالة في أوروبا يمكنها إيقاف إرسال الأسلحة. فالشرخ الجيوسياسي أدّى إلى الأحداث الخطيرة مع انهيار النظام الأوروأطلسي القائم بعد الحرب العالمية الثانية. كما أن "إسرائيل" المشاركة في رامشتاين تساعد بشكل غير مباشر في علاج الجرحى الأوكرانيين ونقلهم إلى المستشفيات. 

الاعتماد المُتبادل الذي ترتكز عليه المصالح والقيم الغربية يشكّل الأساس في العلاقة فيما بينها، وهذا ما يمكن معاينته في تسلسل مواقف ألمانيا حيث طرح بعض الخبراء تساؤلات حول قدرة الولايات المتحدة في الضغط على أوروبا. فكانت الأجوبة متناقضة، فأوروبا التي تقول الصحافة إنها ملحقة بقرار واشنطن تثبت كل يوم أنّ علاقتها مع الولايات تنطلق من مصالحها والأساس القيمي حيث تترابط العلاقات المتبادلة وتنطلق في سياسة عالمية.