أبطال الشغب في فرنسا: من هم أفراد الكتل السوداء "Black Blocs"؟
اعترف وزير الداخلية الفرنسي بأنّ 90% من الموقوفين منذ بدء الفوضى وحتى 4 تموز/يوليو من جنسية فرنسية، في حين تقدر نسبة الموقوفين الذين يحملون جنسيات أجنبية بـ10% فقط.
في إثر جريمة قتل الشاب نائل ذي الأعوام السبعة عشرة في نانتير في الضاحية الباريسية في 27 يونيو/حزيران المنصرم على يد أحد أفراد الشرطة، اندلعت موجات عنف عارمة في فرنسا لم تقتصر على العاصمة باريس وضواحيها، بل امتدت نحو كبرى المدن في الشمال والجنوب الفرنسي أيضاً.
إلى يوم 4 تموز/يوليو، أي خلال أسبوع واحد من الاحتجاج الحضري العنيف، ناهزت حصيلة الأضرار والخسائر في فرنسا حصيلة أعمال الشغب التي اندلعت قبل 18 عاماً في 27 تشرين الأول/أكتوبر 2005 في مدينة كليشي سو بوا في الضاحية الباريسية، بسبب مقتل الشابين زياد بنّة وبونا تراوري، والتي دامت 20 يوماً.
وإذا ما قورنت تقديرات وزارة الداخلية الفرنسية الأوّلية المعلنة في 4 تموز/يوليو 2023 بتلك التي نشرها "المجلس الوطني الفرنسي للمدن" في تقرير له حول "أعمال الشغب الحضرية في 2005"، فإنّ بعض مؤشّرات الخسائر في الأيام الأخيرة تجاوز تلك المسجلة في إثر أحداث شغب 2005.
حصيلة ثقيلة في مدة قصيرة
يوم الأربعاء 5 تموز/يوليو، وخلال جلسة استماع أمام لجنة القوانين بمجلس الشيوخ الفرنسي، قدم وزير الداخلية الفرنسي جيرالد ديرمانين آخر حصيلة للأضرار التي خلفتها موجات العنف والشغب منذ ليلة 28 حزيران/يونيو.
ووفقاً لتفاصيل التقرير الذي استعرضه، أضرم المحتجون النيران في 23878 طريقاً عاماً و12031 مركبة، وسجلت حرائق متفاوتة الشدة في 2508 مبانٍ، منها 273 مبنى خاصّاً بقوات الأمن؛ إما الشرطة الوطنية، وإما الشرطة البلدية، وإما الدرك، وأحرقت كلياً أو جزئياً 105 مقار بلدية، وتعرضت 168 مدرسة للهجوم.
في إقليم إيل دو فرانس، حيث تقع العاصمة باريس وضواحيها، سجلت أعمال عنف وشغب في 140 بلدية (10% من بلديات الإقليم)، تضررت بسببها، وبنسب متفاوتة، 18 دار بلدية مركزية أو ملحقة، و36 مركز شرطة بلدية. ووفقاً لهيئة "فرانس موبيليتي"، وهي هيئة تنظم النقل في إقليم "إيل دو فرانس"، أشعلت النيران في 39 حافلة وعربة ترامواي واحدة، مسبّبة خسائر بنحو 20 مليون يورو، وفقاً للتقديرات الأولية للهيئة ذاتها.
على الصعيد الوطني، وسعياً إلى الحدّ من تمدّد رقعة امتداد الشغب، شددت الحكومة الفرنسية قبضتها الأمنية ضد المحتجين، حاشدة نحو 45 ألف جندي، أصيب 722 منهم، وفقاً لتقرير "دارمانين". في السياق ذاته، اعتقلت الحكومة 3505 أشخاص، 1373 منهم في باريس وضواحيها. ووفقاً للتقرير ذاته، فإن أصغر مقبوض عليه يبلغ 11 عاماً وأكبرهم 59 عاماً.
اقتصادياً، وفي مقابلة له مع صحيفة "لو باريزيان"، قدّر جيوفروي رو دي بيزيو، رجل الأعمال الفرنسي رئيس تحالف أرباب العمل الناطقين بالفرنسية ورئيس "حركة الشركات الفرنسية"؛ النقابة الرئيسية لرجال الأعمال الفرنسيين، القيمة الأولية للأضرار التي لحقت بالشركات الفرنسية الخاصة بسبب أعمال الشغب بأكثر من مليار يورو من دون احتساب الخسائر التي لحقت بالسياحة.
ديرمانين يبرئ المهاجرين
اعترف جيرالد ديرمانين أمام الجمعية الوطنية الفرنسية، الغرفة السفلى للبرلمان الفرنسي، بأنّ 90% من الموقوفين منذ أن بدأت الفوضى وحتى 4 تموز/يوليو من جنسية فرنسية، في حين تقدر نسبة الموقوفين الذين يحملون جنسيات أجنبية بـ10% فقط. علاوةً على ذلك، أكد ديرمانين أمام نواب الجمعية الوطنية أنَّ 40 موقوفاً فقط هم من المهاجرين غير الشرعيين.
يقود هذا الاعتراف إلى استبعاد المهاجرين بصنفيهم، الشرعيين وغير الشرعيين، من دائرة الاتهام، عكس ما مالت إليه جلّ التحليلات التي نسبت أعمال الشغب إليهم. في المقابل، أهملت هذه التحليلات تأثير ما يعرف بالكتل السوداء (Black Blocs) التي تؤكد التقارير الأمنية أنهم كانوا أبطال أعمال الشغب الأخيرة في فرنسا، مثلما حصل خلال احتجاجات 2016 ضد "قانون الخمري"، واحتجاجات السترات الصفراء سنة 2018، والاحتجاجات ضدّ إصلاح نظام التقاعد في آذار/مارس 2023.
الكتل السوداء: أصل التسمية والاستراتيجية
عبارة "Black Blocs" هي ترجمة للمصطلح الألماني الأصلي "Schwarzer Blocks"، الذي يعني حرفياً "الكتل السوداء". ويشار بالأخيرة إلى الأفراد -خلال التظاهرات- الذين يتعمدون إخفاء هوياتهم عبر ارتداء أزياء سوداء وقفازات وأقنعة وخوذ أحياناً، بغرض تكوين حشود كبيرة من الأشخاص المجهولين والمتشابهين، سريعي الحركة خلال التظاهرات، والذين يحمون بعضهم البعض. وغالباً ما يحملون ملابس احتياطية لارتدائها في حالة الاضطرار إلى الهروب.
في فرنسا، لوحظ خلال تظاهرات السترات الصفراء والاحتجاجات ضدّ قانون التقاعد في آذار/مارس الماضي أنّ أفراد الكتل السوداء هم على الأغلب شباب، قصّر أحياناً، متعلّمون، مثقفون ومسيّسون أتوا من أوساط ذات مستوى تعليمي متوسط أو راق أحياناً.
لا يتبنى أفراد الكتل السوداء أيّ تسلسل هرمي ولا أيّ مخطّط تنظيمي أو اتصالي في استراتيجية عملهم، كما لا ينتسبون رسمياً إلى أيّ تنظيم سياسي أو نقابي، ولا يعترفون بمنطق القيادة عليهم لأيّ شخص، ويشتركون في استخدام العنف الجماعي خلال الاحتجاجات ضدّ رموز الدولة والنظام (الشرطة والدرك والمباني الإدارية...) ورموز الرأسمالية (المصارف، شركات التأمين، دور الأزياء الكبرى، المحلات التجارية...).
وبالنظر إلى خصائص استراتيجية عملهم، تلاقي أجهزة الاستخبارات والاستعلام صعوبات جمّة في التنبؤ بحركتهم.
فكر يساري "عنيف"
عكس ما يروّج، أثبتت أحداث الشغب الأخيرة في المدن الفرنسية وتلك التي سبقتها في آذار/مارس المنصرم أن المشترك بين أفراد الكتل السوداء ليس كونهم مهاجرين أو من أصول غير فرنسية، بل تبنيهم فكراً تغلب عليه الأفكار اليسارية الثورية التحررية، المتطرفة أحياناً، إذ تُبنى فلسفتهم على الاعتقاد بأنّ العنف هو الطريقة الناجعة لإيصال مطالبهم وتحقيقها، وهم يعتبرون أن السلوكيات المطلبية اللاعنفية ليست سوى منافذ غير فعالة تساعد حقاً في تجنب تراكم الشعور بالإحباط لدى الناس، لكنها لا تؤدي إلى تحقيق التغيير.
بالعودة إلى التاريخ، نجد أن الكتل السوداء، ومنذ ظهورها في بريم في ألمانيا الغربية سنة 1980 في مواجهات ضد الشرطة، تبنت توجهات مناهضة للاستبداد والفاشية والرأسمالية. وفي التسعينيات، استخدم ناشطون من حركة العمل المناهض للعنصرية في أميركا الشمالية (ARA)، يساريو التوجّه، تكتيك الكتلة السوداء في المواجهات العنيفة المباشرة التي خاضوها ضدّ النازيين الجدد ودعاة نزعة تفوق البيض العنصريين.
عام 1991، سجل استخدام عبارة الكتل السوداء في وسائل الإعلام الأميركية لمناسبة تظاهرة ضد حرب الخليج شهدت أعمال عنف ضد مقار للبنك الدولي. وفي 30 تشرين الثاني/نوفمبر 1999، خلال مؤتمر لمنظمة التجارة العالمية في سياتل (الولايات المتحدة الأميركية)، هاجمت كتلة سوداء مكونة من نحو 200 ناشط مباني الشركات متعددة الجنسيات في طريق التظاهرة، وأغلقت الشوارع، محولة إياها إلى "مناطق حكم ذاتي مؤقتة"، كما سمتها، لجذب انتباه وسائل الإعلام المحلية والعالمية.
بعد هذا، تكرر ظهور الكتل السوداء في عدة مناسبات: خلال تظاهرات ضدّ اجتماعات مجموعة الثماني (G8) في جنوة (إيطاليا) عام 2001، وإيفيان (فرنسا) عام 2003، وهيلينجدام (ألمانيا) 2007، وسجّل نشاط الكتل السوداء خلال تظاهرات لمناسبة قمّة الناتو في نيسان/أبريل 2009 في ستراسبورغ (فرنسا)، وفي هامبورغ لمناسبة اجتماع قمة العشرين (G20) في 2017.
في فرنسا، كانت حشود الكتل السوداء دائمة الحضور في التظاهرات والاحتجاجات ضدّ قانون العمل، مثلما حدث في 2016 ضدّ قانون العمل الذي عرف وقتها باسم "قانون الخمري"، وفي التظاهرات والاحتجاجات ضد قانون التقاعد، وفي الحركات الجماهيرية التي حملت مطالب اجتماعية واقتصادية، كاحتجاجات السترات الصفراء عام 2018.
من الجلي إذاً أنَّ المشترك في عمل الكتل السوداء هو أولاً استراتيجيات نشاطهم، ثم فلسفتهم المناهضة لرموز الدولة والرأسمالية، وهي أفكار لا يختلف في جوهرها اليساري.
لذا، لا يجب إهمال هذا عند الحكم عن حجم العنف الذي انبثق من موت الشاب نائل. صحيح أن فعل الشرطي انطوى على عنصرية، وشابته شبهة الكراهية، وأن الاحتجاجات والشغب اندلعت بسببهما، بيد أنَّ تفسير المدى الذي أخذه الأخيران يجب ألا يهمل الكتل السوداء وفكرها واستراتيجية عملها واستثمارها في أي مظاهر للاحتجاج الشعبي كي تعلن وجودها ومطالبها بأساليبها التي تحبذها.
إننا نتحدث عن كتل تشبه الحركة الاجتماعية والسياسية تتبنى فكراً متجذراً في المجتمع الفرنسي يتغذى تطرفها وحقدها من السيرورة الداهمة للعولمة والنتائج السلبية اللامتوقفة للرأسمالية. وبالنظر إلى تعقّد العوامل المحركة لها، ليس من المنطقي الحديث عن اختفاء الشغب والعنف في فرنسا مستقبلاً، مهما بدا أن الأمور قد هدأت.