واشنطن المأزومة.. كيف ستنتقم؟ وأين؟
تجاهد واشنطن اليوم، وعبر ضخ كميات ضخمة من الأموال والعتاد العسكري لحكومة كييف، لوقف تقدّم الروس الذي تأكّد مؤخّراً أكثر وأكثر، استناداً إلى مسار التطورات الميدانية في وسط شرق أوكرانيا.
من يتابع ما يجري اليوم على الصعيد الدولي، وخصوصاً في ثلاثي مناطق الاشتباك الأكثر حيوية وحساسية: شرق أوروبا وشرق آسيا والشرق الأوسط، يجد أن هناك شيئاً جديداً لم يعتده العالم منذ فترة طويلة؛ فبعدما كانت مناطق "اهتمام وتأثير أميركيين بدرجة عالية"، تغيّرت هذه الوضعية اليوم، لتصبح "مناطق اهتمام وتأثير أميركييين بدرجة منخفضة".
هذا المستوى الضعيف في القدرة الأميركية على التأثير في المسرح الدولي، وتحديداً في المناطق المذكورة، يمكن تلمّسه من خلال المعطيات التالية:
في شرق أوروبا، تجاهد واشنطن اليوم، وعبر ضخ كميات ضخمة من الأموال والعتاد العسكري لحكومة كييف، لوقف تقدّم الروس الذي تأكّد في الآونة الأخيرة أكثر، استناداً إلى مسار التطورات الميدانية في وسط شرق أوكرانيا، إلى درجة أن وجهات النظر الأميركية بدأت تميل إلى دفع الوحدات الأوكرانية إلى الانسحاب من باخموت ومحيطها في وسط دونباس، الأمر الذي يؤشر أيضاً إلى بدء تكون نواة خلاف بين الإدارة الأميركية والرئيس زيلينسكي حول استراتيجية الطرفين في إكمال المعركة التي تصبح أصعب يوماً بعد يوم.
وبين شرق أوروبا وغربها، تنظر واشنطن بحيرة وخشية إلى الخلافات التي تتطور بسرعة داخل حكومات دول الاتحاد الأوروبي ومع مواطنيها حول جدوى متابعة حرب خاسرة فقدت أي أفق للنجاح، مع فقدان نسبة كبيرة من التوازن الاقتصادي والمالي في هذه الدول التي تنظر موسكو إليها بشيء من السخرية، إثر عقوبات فرضتها عليها، ولكنها ارتدّت سلباً على مجتمعات الغرب الأطلسي وشعوبه، ليصبح الشغل الشاغل لواشنطن كيفية الاستمرار في إقناع الأوروبيين بهذه الحرب.
في الشرق الأوسط، وعلى الرغم من أنها ادّعت معرفتها بمسار التسوية التي عملت عليها بكين بين إيران والسعودية، لحفظ ماء وجه فقط، وكي لا تبدو كالزوج المخدوع، فإن مضمون رد فعل وسائل إعلام واشنطن وباحثيها ومراكز دراساتها أجمع على أنّ ما حقّقته بكين في هذا الاتفاق الذي انطلق ثابتاً بين طهران والرياض شكّل صفعة غير عادية لواشنطن، ولن تقتصر تداعياتها عليها حكماً على ملفات الشرق الأوسط، بل ستمتدّ إلى أغلب ملفات الصراع الاستراتيجي على كامل المسرح الدولي.
ومع نجاح السعودية وإيران، عبر هذه التسوية الاستثنائية، في الإفلات من مخططات واشنطن الخبيثة، تراقب الأخيرة كيف تتأكل ربيبتها في الشرق الأوسط، "إسرائيل"، في مجتمعها وسلطتها وفي تماسك أجهزتها الأمنية والعسكرية، وكيف تهرب حكومة نتنياهو إلى الأمام نتيجة ضعفها في السيطرة على هذه الأزمة باتهام الإدارة الأميركية بمسؤوليتها المباشرة عن هذا التوتر والانقسام غير المسبوق داخل الكيان منذ بدء احتلال فلسطين حتى اليوم.
وفي وقتٍ تتحضّر الصين لاحتضان نصف العالم، على الرغم من مكافحة واشنطن لتأمين حشد النصف الآخر ضد بكين، فإن آخر المعطيات في ذلك يفيد بوجود خلافات أساسية مع دول وازنة في الاتحاد الأوروبي حول الموضوع، مع قول مصدر رفيع في بروكسل: "نعم، صحيح أننا شركاء للولايات المتحدة، لكنّنا لسنا دولاً تابعة. نعتقد أنه لا ينبغي لنا أن ننفصل بشكل تام عن الصين. بالطبع، لدى المفوضية الأوروبية الكفاءة في مجال التجارة، ولكن الاستراتيجية الجيوسياسية يجب وضعها بموجب تفويض من المجلس الأوروبي".
هذا الأمر يدل بوضوح على اقتراب قيادة الاتحاد المذكور إلى حافة الانقسام في مقاربة الموقف المتشدّد الذي تطالب واشنطن باتخاذه تجاه الصين.
ومع إعادة انتخاب شي جين بينغ رئيساً للصين لولاية ثالثة، فإن منطقة شرق آسيا على موعد مع عدد من الاستحقاقات الاستثنائية التي يمكن استنتاجها من مضمون خطاب بينغ الأول بعد التجديد، والذي ركّز فيه على ضرورة تعزيز عملية تحديث الدفاع الوطني والقوات المسلّحة، واعداً شعبه والعالم بتأسيس جيش قوي وجعله سوراً فولاذياً عظيماً يحمي بشكل فعّال السيادة الوطنية والأمن ومصالح التنمية.
والأهم أن بينغ لم ينسَ تايوان، فحذر من المخاطر التي تتعرّض لها الصين، وأكد رفض بلاده التدخّلات الخارجية في ملف تايوان وما وصفها "بالأنشطة الانفصالية الرامية إلى استقلال الجزيرة"، مشدداً على أنّ بلاده ستعارض بحزم تدخّل القوى الخارجية في تايوان.
وفي الوقت الذي يجري كل ذلك أمام أعين واشنطن من دون امتلاكها قدرة واضحة على استيعابه أو السيطرة عليه، جاء "زلزال" تعثّر وإغلاق مصرف "سيليكون فالي" المقرّب إلى أوساط التكنولوجيا ليدفع الوسط المالي الأميركي إلى موجة من الذعر عمّت القطاع المصرفي في الولايات المتحدة، مع إعلان إفلاس أكثر من مصرف أميركي، ومع تساؤل الأسواق عن عواقب أكبر إفلاس مصرفي في الولايات المتحدة منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008.
أمام كلّ هذه المعطيات غير المريحة لواشنطن والضاغطة عليها، التي تتزايد من خلالها مستويات التأثير سلباً في موقعها ونفوذها في العالم، واستناداً إلى تاريخها، وإلى قدرتها وإمكانياتها المعروفة في تخريب الساحات وزعزعة الاستقرار العالمي، متى رأت نفسها مستهدفة في نفوذها أو في تسلّطها الذي اعتادته، فقد أصبح واضحاً، وبقوة، أنّ مصلحة الولايات المتحدة الأميركية اليوم تكمن في اندلاع مواجهات واسعة في شرق آسيا وشمال غربي المحيط الهادي، وليس بالضرورة أن تكون ضمنها مواجهة مباشرة بينها وبين الصين، بعد كل التوترات والإشكالات والأرضيات الملتهبة التي خلقتها بين دول تلك المنطقة (تايوان والصين – الصين واليابان – الصين ودول حوض بحر الصين الجنوبي - كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية – كوريا الشمالية واليابان).
كلّ هذه الأمور قادرة على أن توفّر لها الفرصة والإمكانية المناسبة لهذه الفوضى التي ستجد فيها فرصة سانحة لخلق توتر مدروس ومخطّط له أميركياً بعناية، يستهدف الاستقرار الأمني والتجاري في منطقة حساسة، وبالتالي يستهدف الصين وموقعها الاقتصادي والاستراتيجي، ويشكّل للأخيرة ضربة حاسمة وصاعقة لن تجد واشنطن لمواجهة بكين أفضل منها أو بديلاً عنها.