ماذا سيقول بوتين اليوم؟ وما ملامح فصول المواجهة المقبلة؟
ملامح مفهوم السياسة الخارجية الروسية الجديد تظهر من خلال طرح الرئيس بوتين مسودة قوانين على الدوما لمناقشتها وإقرارها، تلغي بمفعول رجعي منذ 16 آذار/مارس 2022 كل الاتفاقيات المبرمة بين روسيا والمجلس الأوروبي.
على الرغم من نفي الكرملين نية الرئيس فلاديمير بوتين الإعلان عن مرحلة جديدة من التعبئة أو تغيير طابع العملية العسكرية الخاصة عشية خطابه في مدينة سان بطرسبورغ (لينينغراد) وتصريحاته التي سيطلقها تزامناً مع ذكرى مرور 80 عاماً على فك حصار المدينة بعد صمودها الأسطوري أمام النازية 900 يوم، فإنَّ جملة مؤشرات تشير إلى تطور بارز في سياق المواجهة الروسية الأطلسية بدأ بالتفاعل لتظهر معالمه في الساعات والأيام القليلة القادمة.
يبدأ ذلك من تشكيلات قيادية رفيعة المستوى، منها تعيين قائد الأركان العامة فاليري غيراسيموف قائداً للقوات المشتركة للعملية العسكرية الخاصة. ويبرز ذلك أيضاً من خلال تصريحات وزير الدفاع سيرغي شويغو وإعلانه سلسلة تغييرات واسعة النطاق في القوات المسلحة الروسية خلال السنوات الأربع القادمة (من 2023 حتى 2026 ضمناً)، مرتبطة بقرار الرئيس بوتين المتخذ نهاية العام الماضي برفع عديد القوات المسلحة النظامية القتالية إلى 1.5 مليون عسكري، وإجمالي القوات المسلحة إلى ما يزيد على مليونين.
هذا التّعزيز يشمل كلّ قطاعات القوات المسلّحة، ويلزم نواب الوزير وقادة قوات المناطق العسكرية والأساطيل البحرية اتخاذ قرارات حاسمة ذات صلة. كما أنَّ هذه التعديلات مرتبطة بالتنسيق بين القوات التقليدية والإستراتيجية، أي الدرع النووي، التي تتطلب حماية أكبر في ظروف الصراع لتبقى رادعاً يمنع الغرب من المواجهة المباشرة.
ولم يخفِ المتحدث باسم الكرملين ارتباط رفع عديد القوات المسلحة وتعزيز قدراتها بالحرب غير المباشرة التي تخوضها دول الغرب الجماعي بالوكالة ضد روسيا، ما يستدعي توفير ضمان الأمن الروسي من دون قيود أو شروط، فهي، أي دول الغرب الجماعي، تشارك بشكل غير مباشر في الأعمال العدائية، وتمارس الحرب الاقتصادية والمالية، متجاوزةً كل القوانين، بحسب المتحدث.
من بين المؤشرات على تطوّر التعاطي الروسي مع التهديدات المستجدة، كلام بيسكوف في الآونة الأخيرة عن وضع اللمسات الأخيرة على مفهوم جديد للسياسة الخارجية الروسية ستجري الموافقة عليه بموجب مرسوم رئاسي من دون الحاجة إلى جلسة موسعة لمجلس الأمن القومي، والذي سيصدر مطلع العام الحالي.
ملامح مفهوم السياسة الخارجية الروسية الجديد تظهر من خلال طرح الرئيس بوتين مسودة قوانين على الدوما لمناقشتها وإقرارها، تلغي بمفعول رجعي منذ 16 آذار/مارس 2022 كل الاتفاقيات المبرمة بين روسيا والمجلس الأوروبي، أي منذ تاريخ وقف عضوية روسيا في هذا المجلس، بعد بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة لتحرير الدونباس وضمان أمن الحدود الغربية الروسية.
خروج روسيا بمفعول رجعي من هذه الاتفاقيات يعني تحرّرها مما يلزمها تجاه أعضاء المجلس الأوروبيّ، فلن تكون ملزمة بإبلاغ الأوروبيين بإجراءاتها لمكافحة الإرهاب أو في حال الطوارئ أو الجاهزية الحربية أو حال حرب.
وتكون موسكو محرّرة من القيود التي تطالب بها الدول الأوروبية بذريعة عدم الالتزام بمراعاة حقوق الإنسان (المبررة وغير المبررة) وغيرها من وسائل الضغط التي لم يتوقف الغرب الجماعي عن ابتزاز دول عديدة بموجبها، فعلامَ سيؤثر انسحاب روسيا من كل الاتفاقيات الأوروبية؟
حتى الآن، تلتزم روسيا بموجب تلك الاتفاقيات بإخطار المجلس الأوروبي في حال إقرار حالة الطوارئ أو الأحكام العرفية، أو في حال اتخاذ أي إجراءات مرتبطة بحال حرب، أو تقييد حقوق وحريات المواطنين المؤقت المنصوص عليه في وثائق مرتبطة بحقوق الإنسان والانتماء إلى الجمعيات والمنظمات العامة وحقوق الملكية والإقامة، وغيرها من الالتزامات ضمن الاتفاقية مع المجلس الأوروبي.
ما يقلق الغرب الجماعي هو أن القيادة الروسية ستكون أكثر تحرراً في اتخاذ أيِّ قرارات ضرورية مرتبطة بحال الطوارئ وظروف الحرب، مثل مصادرة أموال وأملاك أشخاص وجمعيات تستعمل للتجييش والتحشيد الشعبي والمادي ضد روسيا، سواء في داخلها أو خارجها.
الدول الأوروبية اجتهدت بعد إلغاء عضوية روسيا في المجلس، وقررت أن الأخيرة يمكنها التنصّل من الاتفاقيات بعد 6 أشهر من وقف عضويتها، لكي يتسنى لتلك الدول محاسبتها على ما تنظر إليه "كجرائم حرب وانتهاكات" في أوكرانيا. من هنا، تأتي أهمية طلب بوتين من الدوما إقرار قانون إلغاء الاتفاقيات بمفعول رجعي.
سرعان ما انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي أنباء تحت عنوان "19 يناير سيدخل التاريخ"، ونقلت هذه الوسائل تصريحات سابقة للرئيس بعد عقده اجتماعاً طارئاً لمجلس الأمن القومي أواخر شهر آب/أغسطس 2022، على سبيل المثال: "نظراً إلى تكثيف الغرب الجماعي تزويد نظام كييف المستمر بالأسلحة، اتخذنا قراراً جاداً في 24 شباط/فبراير. حذرنا الغرب مرات عديدة من تدخله في عمليتنا العسكرية الخاصة ومساعدته النظام النازي. حتى الآن، لم يشارك في أوكرانيا سوى جزء ضئيل من قوانا العسكرية...".
في هذه التغريدات إشارات إلى قرارات سياسية وعسكرية قد يتخذها الرئيس خلال خطابه في بطرسبورغ، يراها البعض مرتبطة بمرحلة تعبئة جديدة ودخول المواجهة فصولاً أكثر حدةً وسخونة.
ويذهب البعض الآخر إلى إعلان يوم 19 من كانون الثاني/يناير الحالي موعداً لإطلاق حملة عسكرية شاملة موسعة وتغيير طابع العملية العسكرية الخاصة، الأمر الذي نفاه بيسكوف أمس، إلا أن بوتين يتقن فن المفاجأة وإدهاش الآخرين، فقد تحمل تصريحاته ما لا يتوقع!
في كلّ الأحوال، بات من الواضح أن روسيا تخوض مواجهة مفروضة عليها من دول غربية وأطلسية تكاد تلامس حدود المواجهة المباشرة. ولا بدّ من أنَّ في قرارات بوتين اليوم ما يرتبط بتعديل موازين القوى، وينذر بتطورات يترتب عليها مصير الصراع الذي بات وجودياً، فروسيا تدرك حجم التهديدات وتصاعدها في سياق حرب النفس الطويل.
عديد القوات الروسية المشاركة في العملية العسكرية بات كافياً، وهو يناهز 450 ألف جندي وضابط من مختلف الاختصاصات، من قوات نظامية وقوات تعبئة ووحدات الشركات العسكرية الخاصة "فاغنر" وألوية المتطوعين.
كما أن زيادة عديد القوات المسلحة القتالية والخدماتية العامة سيسمح بسد كل الثغرات على طول الحدود والمساحة الجغرافية الروسية على مراحل متناسبة مع تطور التهديدات ذات الصلة.
ومن المفيد أن تلجأ روسيا إلى تنفيذ برامج تأهيل عسكرية وتعبوية للدفاع المدني والشعبي، تشمل كلّ المواطنين الصالحين للخدمة العسكرية، ولو لم تبرز حاجة إلى استدعائهم، بل ليكون المجتمع على جاهزية كافية على أساس: "وأعدوا لهم ما استطعتم...".
هذه الإجراءات بدأت كذلك برفع مستوى إنتاجية الصناعات العسكرية والتقنية وتكثيف وتيرته. ولا بد في هذه الحال من البدء ببناء مجتمع مقاوم يصمد أمام كل أشكال الحرب المفروضة على روسيا التي لديها تجربة الحرب الوطنية العظمى التي كانت حافزاً للشعب السوفياتي لبناء دولة وقوة عظمى رغم الثمن والتضحيات الباهظة.