لماذا تشتعل الاحتجاجات في فرنسا؟
الزخم الشعبي المتصاعد في مواجهة سياسات الرئيس الفرنسي، يحمل عنوان رفض قوانين التقاعد، لكنه في طيّاته رفض لانقلاب ماكرون على ما تبقى من مكتسبات الحقوق الاجتماعية والديمقراطية السياسية.
لم تنتهِ الاحتجاجات العارمة بموافقة مجلس الشيوخ على قانون "إصلاح التقاعد"، ولا بفشل مجلس النواب في حجب الثقة عن الحكومة، بل زادت حدّة واتساعاً اعتراضاً على تمرير القانون بأمر استبدادي في الدستور (49/3) وبمساومة تحت الطاولة مع اليمين التقليدي المعارض، للفوز بفارق 9 نواب ضد حجب الثقة.
ما سمّاها الرئيس الفرنسي "معركة إصلاح التقاعد"، اختارها "معركة كسر عظم" أيديولوجية كقطب نيوليبرالي محارب، أملاً بأن يسجّل اسمه علماً في تاريخ فرنسا المعاصر بعد انتهاء ولايته واندحار حزبه المرجّح إثر اختتام رئاسته الثانية غير القابلة للتجديد.
ماكرون المتشبّع بعقيدة المال والأعمال في النموذج الأميركي، منذ مطلع شبابه في "بنك روتشيلد"، أثبت جدارته المالية والاقتصادية في حكومة فرنسوا هولاند التي استكملت إجراءات نيكولا ساركوزي والمفوضية الأوروبية، فازداد ماكرون قناعة بأن "دعم الدولة لأعمال الأغنياء هو الوسيلة الأنجع لإطعام الفقراء"، بحسب معتقداته الأيديولوجية الراسخة.
رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، هو أحد مداخل نظريته لتحويل فرنسا إلى الأبد من دور الدولة في حماية الحقوق الاجتماعية المكتسبَة، إلى دورها في رعاية أعمال الأوليغارشية المالية، ودعم سيطرة الشركات الكبرى على الاقتصاد ــ الاجتماعي في فرنسا وأسواق عالم الجنوب، لسد رمق المنتجين والمستخدَمين والمهمّشين.
شعار "الإصلاح"، يفرض عمليّاً رفع اقتطاع الادخار من المنتجين والمستخدَمين في صندوق التقاعد، من 42 سنة عمل كاملة إلى 44 سنة ادخار كامل، على اعتبار بداية العمل في سنّ العشرين. وهو أمر لم يعد قائماً في فرنسا نظراً لطغيان عقود العمل المتقطعة خاصة للأمهات، ونظراً للبطالة وحرية تسريح الشركات... إلخ فبات سنّ التقاعد الوسطي القائم اليوم هو بحدود 69 ــ 70 سنة وغالباً بمعاش أدنى من التقاعد.
إجراءات "الإصلاح" تُفاقم إلى حدّ بعيد مسار تقليص الوظائف والتقشّف الحكومي المعمول به منذ 3 عقود، وخاصة للشباب في قطاعات التعليم والصحة والخدمات العامة، على طريق خصخصة المرافق الاجتماعية بهدف تسليمها لشركات الاستثمار وأوليغارشية المال المدعومة من الحكومات.
في مواجهة الاستبداد الاجتماعي والسياسي
الضمان الاجتماعي والصحي والوظيفي والتقاعد...، هي تجلّيات الديمقراطية الاجتماعية لدور الدولة الأوروبية في حماية الحقوق المكتسبَة بنضال المنتجين وتضحياتهم الجمّة المديدة. لكن تبنّي المفوضية الأوروبية وحكوماتها معتقدات النموذج الأميركي بتأثير أيديولوجي ومالي وسياسي، قلب دور الدولة الحامية للتوازنات الاجتماعية إلى استبداد اجتماعي لحماية حرية مصالح المال.
العجز في صندوق التقاعد الفرنسي، يعود إلى تخلّي الدولة عن القطاعات الإنتاجية العامة وخصخصتها لمصلحة "القطاع الخاص" الكبير، وإلى تخلّيها عن التوظيف في المرافق العامة وإطلاق حرية الرأسمال الكبير في تسريح العمال والمستخدَمين، وهو الأمر الذي أدّى إلى نقص متنام في تمويل صندوق التقاعد من اقتطاعات العاملين ومن أرباب العمل على السواء.
يبلغ عجز الصندوق، بحسب توصيات "بيوت الخبرة المالية" التي استعانت بها الحكومة "للإصلاح الإداري"، نحو 500 مليار يورو في السنوات الـ 25 المقبلة. لكن أساتذة الاقتصاد في الجامعات، ومنهم أستاذ المؤتمرات الاقتصادية في جامعة باريس كريستوف رامو، يبرهنون اختلاق أرقام متناقضة ولا يتعدى العجز 0,4 من الناتج القومي الإجمالي (35 مليار حتى عام 2046).
ولا تتعلق المعضلة بحقائق الأرقام صعوداً وهبوطاً، إنما محورها رؤية أيديولوجية لدور الدولة التي يدفع بها ماكرون إلى الحد الأقصى من القطيعة مع مسؤوليتها في رعاية الحقوق بالضمانات الاجتماعية وتسليمها إلى شركات التأمين الخاصة.
تقتصر هذه الرؤية لدور الدولة على توفير الدعم الحكومي "لتشجيع" الاستثمار الكبير فيما يسمى "التحوّل الإيكولوجي" وخطط التعافي بتمويل الرأسمال، وعلى توسّعه في "الشراكة الجديدة بعد الكولونيالية" للاستثمار في نهب أفريقيا، وعلى "الأمن الاستراتيجي" المفتعل لتمويل الحرب الأطلسية على الشرق من أوكرانيا.
الانقلاب على الديمقراطية الاجتماعية الذي يؤجّجه ماكرون بغطرسة ناتئة، اعتاد الفرنسيون على الحدّ من غلوائه منذ ولاية جاك شيراك الثانية وحكومة آلان جوبيه الذي أرغمته الاحتجاجات على التراجع عن مشروع "إصلاح التقاعد" في سياق وصفات البنك المركزي الأوروبي والاتحاد والمفوضية.
لكن الغضب الفرنسي الصاخب، فجّره في الشارع انقلاب ماكرون على الديمقراطية السياسية، شكلاً برفضه الاجتماع مع النقابات ورفض حكومته التفاوض، ومضموناً بتبنّيه المقولة الأميركية للانصياع حتى "المحاسبة في صناديق الاقتراع"، خلافاً لتاريخ الممارسة الديمقراطية في حق المحاسبة بين جولتين انتخابيتين وتراجع السلطة أمام الاحتجاجات الواسعة.
الإمعان في الازدراء عبر تمرير المشروع بقانون تسلّطي، أثار نقمة 90% من الفرنسيين وحمل مشاركة الطلاب والشباب في الاحتجاجات الغاضبة، على هوى أحداث 68 التي أسقطت شارل ديغول. واستعاد الفرنسيون تجربة السترات الصفراء في نقل الاحتجاجات الموضعية واليومية إلى الدواخل والمحافظات، وسط تجذّر وتصميم فيدراليات نقابية صلبة ومؤثّرة في شلّ الحيوية.
المعارضة اليسارية تضغط بثقلها لنقل الأزمة إلى المحكمة الدستورية، التي يتأثر حكمها بمدى حجم الغليان واستفحال عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي في الشارع. وإذا رأت المحكمة عدم قدرة ماكرون على استعادة زمام الأمور في كلمة يوجهها للفرنسيين، لا يبقى أمامه سوى حل البرلمان والمغامرة بانتخابات جديدة، لعلّ وعسى.
معركة كسر العظم، يتوقعها القسم الأعظم هزيمة قاسية لماكرون الذي يشمت بعنجهيته بعض الحلفاء، مبرّرين الشماتة وراء ظهره بتمتمة "على نفسها جنت براقش".