سياسة إردوغان الخارجية.. الاستخبارات قبل الدبلوماسية
كان إبراهيم كالين وهاكان فيدان معاً الساعدين الأيمن والأيسر للرئيس التركي إردوغان في مجمل تحركاته وقراراته الخارجية، حتى قبل أن يقرّبهما أكثر في تشكيلة الحكومة الجديدة.
كما كان متوقعاً قبل الانتخابات، كلّف الرئيس إردوغان رئيس استخباراته هاكان فيدان بحقيبة الخارجية، مع المعلومات التي تتوقع لإبراهيم كالين أن يحل محل فيدان رئيساً للاستخبارات. ومن المعروف عن الرجلين أنهما كانا المخططين الرئيسين للسياسة الخارجية التركية خلال السنوات الأخيرة -وبشكل خاص بعد ما يسمى بـ"الربيع العربي"- التي نفذتها كل مؤسسات الدولة التركية، وفي مقدمتها الأجهزة الأمنية والقوات المسلحة بكلّ فرقها.
وقد بدأ التناغم والانسجام الفكري والعملي بين إردوغان وفيدان منذ العام 2009، عندما كان نائباً لرئيس الاستخبارات، إذ كلفه آنذاك بالحوار المباشر مع قيادات حزب العمال الكردستاني في أوسلو ضمن ما يسمى "مسار السلام" لحل المشكلة الكردية ديمقراطياً.
واعترف إردوغان لاحقاً أكثر من مرة أنه هو الذي أمر فيدان بالاتصال والحوار المباشر مع هذه القيادات، بما في ذلك لقاؤه زعيم الحزب عبد الله أوجلان الموجود في السجن منذ شباط/فبراير 1999.
أثبت هذا التكليف مدى الثقة التي يوليها لفيدان الذي كان المسؤول الأول والأخير عن تطبيق سياسات تركيا الخارجية، بناءً على تعليمات إردوغان، حتى عندما كان أحمد داوود أوغلو رئيساً للوزراء حتى أيار/مايو 2016.
وكان فيدان تم ترشيحه من قبل داوود أوغلو لعضوية البرلمان في انتخابات حزيران/يونيو 2015. وقد أغضب ذلك إردوغان جداً، وقال عنه آنذاك إنه "أمين أسراره وصندوقه الأسود، ولن يسمح له بالاستقالة من رئاسة الاستخبارات ليكون عضواً في البرلمان".
بعد هذا الكلام، صار فيدان الساعد الأيمن للرئيس إردوغان في جميع تحركاته الخارجية، وكان مع وزير الدفاع خلوصي أكار والمتحدث باسم إردوغان إبراهيم كالين إلى جانبه دائماً في مباحثاته المهمة مع كل الزعماء الأجانب، وفي مقدمتهم الرئيس بوتين والرؤساء الأميركيون وغيرهم دولياً وإقليمياً.
وكان إردوغان يكلّف فيدان بمهام سرية وعلنية، منها في السابق لقاؤه الرئيس الأسد في آب/أغسطس 2011، مع بداية الأحداث في سوريا. وقد أمسك بهذا الملف بكل تفاصيله الدقيقة، السياسية منها والأمنية والعسكرية والاستخباراتية، إذ كان المسؤول الأول والأخير عن كل التفاصيل الخاصة بالسياسة الخارجية التركية، ليس في سوريا وليبيا والعراق والصومال والدول العربية فحسب، بل في جميع أنحاء العالم أيضاً، وحيث لتركيا وجود مباشر أو غير مباشر علني أو سري.
هذا الأمر كان واضحاً في التسجيل الصوتي الذي تم تسريبه في 25 كانون الأول/ديسمبر 2013 من مكتب وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو، عندما كان المسؤولون السياسيون والأمنيون والعسكريون يناقشون الوضع السوري، فقال فيدان: "إذا كنتم تبحثون عن مبرر لتدخلنا العسكري المباشر في سوريا، فسأرسل 4 من عناصرنا حتى يطلقوا الصواريخ صوب الأراضي التركية، لنردّ عليها بالاجتياح الشامل".
يبدو أن تعيين فيدان وزيراً للخارجية يهدف إلى جمع فعاليات وزارات الداخلية والدفاع والخارجية في إطار السياسة الخارجية الجديدة للرئيس إردوغان الذي سيسعى خلال الفترة المقبلة لتحقيق التوازن في علاقاته مع كل من موسكو وواشنطن، مع انعكاسات ذلك على سياسات تركيا الإقليمية، وبشكل خاص مع جاراتها سوريا والعراق وإيران.
وكان إردوغان في تموز/يوليو 2020، خلال افتتاح المبنى الجديد للاستخبارات في إسطنبول، الذي يُسمّى "القلعة"، قال: "إن للاستخبارات دوراً أساسياً في مجمل النجاحات الدبلوماسية التي حققتها تركيا على صعيد السياسة الخارجية". ويعرف الجميع أنَّ ما قصده الرئيس إردوغان هو الانتصارات التي حققتها أنقرة على الصعيدين الإقليمي والدولي، وفي جميع المجالات السياسية والعسكرية والاستخباراتية.
وستكون كلّ هذه المعطيات من دون أدنى شك ضمن اهتمامات إبراهيم كالين، المتحدث باسم الرئيس إردوغان، الذي يُتوقع له أن يحلّ محل هاكان فيدان في رئاسة الاستخبارات. وكان كالين وفيدان معاً الساعدين الأيمن والأيسر لإردوغان في مجمل تحركاته وقراراته الخارجية، إذ كان كالين، ولو بشكلٍ غير رسمي، بمنزلة "مستشار إردوغان لشؤون الأمن القومي". وقد كلفه بمهام خارجية في هذا الإطار.
وكانت زيارته الأخيرة لواشنطن قبل شهرين ولقاؤه المسؤولين في البنتاغون والاستخبارات والأمن القومي والبيت الأبيض في هذا الإطار الذي حدّد إردوغان أسسه منذ ما يسمى بـ"الربيع العربي"، والذي حقق من خلاله الكثير من الأهداف، وأهمها أن تركيا أصبحت صاحبة الدور الرئيسي، ليس في سوريا والعراق وليبيا والصومال والمنطقة العربية فحسب، بل في البلقان (عبر العلاقة مع المجر وصربيا والبوسنة وألبانيا وكوسوفو) والقوقاز وآسيا الوسطى أيضاً، حيث الجمهوريات الإسلامية ذات الأصل التركي، وهي الحديقة الخلفية لروسيا.
ويبدو أن هذه الدول لا تريد أن تخسر إردوغان، مهما كلّفها ذلك على صعيد العلاقات الثنائية والإقليمية (في سوريا والحرب الأذربيجانية الأرمينية) والدولية (الحرب في أوكرانيا).
ويبقى الرهان على السياسات المحتملة للثنائي إبراهيم كالين (ورد اسمه في وثائق ويكيليكس، وجاء فيها أنه كان يراسل مؤسسة "ستراتفور" الأميركية ذات العلاقة بالاستخبارات المركزية الأميركية)، وهاكان فيدان (اتهمته "تل أبيب" بالعلاقة مع طهران عندما كان رئيساً للاستخبارات عام 2010)، ومعهما وزير الداخلية علي يارلي كايا، الذي كان محافظ مدينة غازي عنتاب عندما كشف الإعلام عن شاحنات الاستخبارات الوطنية التي كانت تنقل المعدات العسكرية إلى المجموعات المسلحة في سوريا.
ويضاف إلى هذا الثلاثي وزير الدفاع الجديد يشار غولار، الذي كان رئيساً للأركان، وسبق أن خدم في العديد من المناصب في جنوب شرقي البلاد، الذي يعيش ظروف الحرب بين العمال الكردستاني والجيش التركي، مع التذكير بأهمية هذا النهج الجديد، إذ سيقوم إردوغان بتعيين رئيس الأركان وزيراً للدفاع، وهو ما سيضمن له ولاء المؤسسة العسكرية بشكل مطلق.
هذا ما فعله إردوغان مع وزير الدفاع السابق خلوصي أكار الذي أسره الانقلابيون في 15 تموز/يوليو 2016، ثم أخلوا سبيله بشكل غامض، فقام إردوغان بتعيينه وزيراً للدفاع، ليكون الجيش والأمن والاستخبارات في خدمته على الصعيدين الداخلي والخارجي، وهو ما كان كافياً لضمان فوزه في الانتخابات الأخيرة وفرض نفسه في مجمل المعادلات الإقليمية والدولية من جديد، على أن تكون معالجة الأزمة المالية ضمن أولوياته، وإلا لما اضطرّ إلى تعيين محمد شيمشاك الذي يحمل الجنسية البريطانية والأميركية، وصاحب العلاقة الجيدة مع الأوساط المالية العالمية، وزيراً للمالية، بعدما قال عنه في 7 كانون الأول/ديسمبر 2019 إنه ورئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو "محتالان".