خيارات أبو ظبي الصّعبة.. تركيا أم سوريا أم "إسرائيل"؟
المنافسة التقليدية بين أبو ظبي والدوحة المدعومة من أنقرة ترشّح المرحلة القادمة في العلاقات الإماراتية مع دمشق لتطورات مثيرة.
طرحت زيارة وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد المفاجئة إلى دمشق (9 تشرين الثاني/نوفمبر) العديد من التساؤلات حول تكتيكات أبو ظبي لكسر الحصار المفروض عليها عربياً وإسلامياً، بسبب حماسها المستميت للتطبيع مع "تل أبيب"، فقد شنّ الرئيس التركي رجب طيب إردوغان هجوماً عنيفاً على الإمارات في 20 آب/أغسطس 2020، بعد توقيعها على اتفاقيات "أبراهام" مع "إسرائيل"، وهدَّد "بتعليق العلاقات الدبلوماسية معها، وسحب السفير التركي من أبو ظبي".
أما سوريا، فعلى الرغم من عدم حديث الرئيس بشار الأسد عن هذا الموضوع، شنّت دمشق سياسياً وإعلامياً هجوماً عنيفاً على الإمارات لاستسلامها للكيان الصهيوني بحماس شديد، وهو ما تصدَّت له قوى المقاومة والممانعة التي ترى في هذا الاستسلام خيانة واضحة ومكشوفة، ليس للقضيّة الفلسطينيّة فحسب، بل لكلِّ القضايا العربية والإسلامية أيضاً.
تركيا الّتي كانت منذ بدايات "الربيع العربي"، ومعها الإمارات والسعودية وقطر، في خندق واحد ضد الرئيس الأسد والدولة السورية، وجدت نفسها في عداء مباشر مع أبو ظبي والرياض بعد انقلاب الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي على الإخوان المسلمين في تموز/يوليو 2013.
وازداد هذا العداء حدّةً وشدةً بعد أن قطعت العاصمتان المذكورتان العلاقات مع الدوحة في حزيران/يونيو 2017، وأعلنتا الإخوان المسلمين تنظيماً إرهابياً. دفع ذلك الرئيس إردوغان إلى إرسال جيشه إلى قطر لحماية آل ثاني من "العدوان السعودي – الإماراتي - المصري"، وأعلنت أنقرة بعدها حكّام الإمارات، وبنسبة أقل السعودية، العدو الأكبر لتركيا.
وقد شنّ الإعلام الموالي لإردوغان هجوماً عنيفاً على الإمارات، وهدَّد الرئيس التركي محمد بن زايد وتوعده بتدمير بلاده بالكامل. ولم يمنع هذا الوعيد والتهديد الرئيس إردوغان من تغيير موقفه واستقبال مستشار الأمن القومي الإماراتي طحنون بن زايد في 18 آب/أغسطس الماضي، ناسياً كلّ ما قاله وإعلامه عن الإمارات، حليف الرئيس السيسي في العداء للإخوان المسلمين، وهم حلفاء إردوغان عقائدياً.
ولم تبقَ استدارة إردوغان هذه عند هذا الإطار، فقد أجرى اتصالاً هاتفياً مع محمد بن زايد في 31 آب/أغسطس الماضي، واتفق معه "على تطوير العلاقات بين البلدين". وسبق كلّ ذلك تعيين سفير تركي جديد إلى أبو ظبي (أيار/مايو 2021) التي تشهد علاقاتها مع أنقرة فتوراً من نوع آخر، بسبب سلسلة الاعترافات التي أدلى بها سادات باكار، أحد زعماء المافيا التركية، عبر أشرطة الفيديو التي بثّها في حسابه في "يوتيوب" أو تغريداته في "تويتر"، وهو مقيم في الإمارات.
وتحدَّث باكار عن قضايا فساد خطرة تورط فيها وزير الداخلية سليمان صويلو ونجل رئيس الوزراء السابق بن علي يلدرم، وكشف عن عمليات تهريب المخدرات، وبالتالي نقل الأسلحة إلى المجموعات المسلَّحة في سوريا، وخصوصاً إدلب.
أما عن سوريا، فقد أعلنت الإمارات افتتاح سفارتها في دمشق في 27 كانون الأول/ديسمبر 2018، ولكن من دون أن تلقى منذ ذلك التاريخ أيّ خطوة عملية على طريق تطبيع العلاقة مع سوريا، ورجّحت عليها "إسرائيل" التي كانت، وما زالت، المستفيد الأول والأخير من الحرب الكونية التي استهدفت هذا البلد العربي.
وجاء اتصال الرئيس الأسد بمحمد بن زايد في 20 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، ليطرح المزيد من التساؤلات حول أسباب هذا الاتصال ومضمونه وآفاقه المستقبلية (بعيداً عن موضوع الغاز والبترول في شرق الأبيض المتوسط)، بعد كل ما قامت به الإمارات من تآمر مكشوف على الدولة السورية وشعبها، والرئيس الأسد بالذات.
المنافسة التقليدية بين أبو ظبي والدوحة المدعومة من أنقرة ترشّح المرحلة القادمة في العلاقات الإماراتية مع دمشق لتطورات مثيرة، يقال إنَّ الهدف منها هو إعادة سوريا إلى مقعدها في الجامعة العربية، ولو بشيء من الخجل، وهو ما كان واضحاً في تصريحات وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة، الذي قال الأربعاء: "آن الأوان لعودة سوريا إلى الجامعة العربية"، وقبل ذلك في لقاء الوزير المصري سامح شكري مع نظيره السوري فيصل مقداد في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في 24 أيلول/سبتمبر، من دون أن يخطر على بال الوزير شكري دعوة المقداد إلى القاهرة أو السفر شخصياً إلى دمشق؛ شريكة الزعيم الراحل عبد الناصر في الجمهورية العربية المتحدة.
يبدو واضحاً أن الاعتراض الأميركي على "الانفتاح الإماراتي على سوريا" هو جزء من السيناريو الذي لا يمكن للإمارات أن تخرج عنه، ما دام لا يشكل خطراً على اتفاقيات "أبراهام"، مع استمرار القصف الإسرائيلي شبه اليومي على مواقع سورية، وخصوصاً بعد الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت إلى موسكو في 22 تشرين الأول/أكتوبر، أي بعد يومين من اتصال الأسد - ابن زايد.
عودة إلى تركيا، ومع إصرار الرئيس إردوغان على سياساته في سوريا وليبيا والقوقاز، وهو ما قاله خلال إحياء ذكرى وفاة أتاتورك (10 تشرين الثاني/نوفمبر 2021)، تستبعد المعلومات للقاهرة والرياض وأبو ظبي معاً أو على انفراد اتخاذ أي موقف عملي ضد أنقرة، التي لن تتخلى عن دعم الإخوان المسلمين وكل الحركات والمجموعات المنضوية تحت رايتها سياسياً أو عسكرياً.
كما أنَّها لن تتراجع عن تكتيكاتها الإقليمية للردّ مسبقاً على أيّ عمل قد يستهدفها، وهو ما يفسّر استضافة إردوغان لعبد الفتاح البرهان في أنقرة في 12 آب/أغسطس الماضي، وآبي أحمد في 18 آب/أغسطس (وكلاهما صديق لـ"إسرائيل")، بعد أن فشل في مساعيه للمصالحة مع عدوه اللدود عبد الفتاح السيسي، الذي أفشل مشروعه العقائدي والتاريخي بعد أن أطاح حكم الإخوان المسلمين. كما فشلت مساعي الوساطة التي بذلها الشيخ تميم بين السيسي وإردوغان لمنع الانفتاح العربي على دمشق، وكان آخر هذه الوساطات يتمثل بلقائه المفاجئ مع السيسي في قمة المناخ في غلاسكو نهاية الشهر الماضي.
المنافسة التقليدية والتاريخية بين القاهرة وأنقرة قد تأخذ منحى آخر باحتمالات المصالحة العربية مع الرئيس الأسد، الذي يعرف الجميع أنَّ إردوغان لن يصالحه، مهما كان ثمن ذلك بالنسبة إليه وإلى تركيا، وسيدفع ذلك أبو ظبي إلى اتخاذ موقف واضح وصريح وعلني لتحديد أولوياتها في تحركاتها الإقليمية بارتباطاتها الدولية. بمعنى آخر، على حكّام الإمارات، وبعد 10 سنوات من التآمر العربي والإقليمي على سوريا، أن يقولوا لنا أيّ طرف هو الأهم بالنسبة إليهم: سوريا أم تركيا أم "الشريك الجديد إسرائيل"؟
إذا كان الرد على هذا التساؤل صعباً، فما عليهم إلا أن يثبتوا نياتهم الصادقة في الانفتاح على دمشق، بعيداً عن التكتيكات الرخيصة، لأن الشعب السوري ومعه اللبناني لا يستحقّان أبداً هذا الأسلوب البسيط من العداء، وما ترتب عليه من مواقف متناقضة، كما هو الحال في حادث الوزير جورج قرداحي.
شخصياً، لا أتوقع مواقف واضحة من حكام الإمارات، وهم الذين تعاونوا مع حكام السعودية (وباكستان) في كل صغيرة وكبيرة خلال دعم كل الحركات الإسلامية المتطرفة، بدءاً من "القاعدة"، إلى "طالبان"، مروراً بكل المجموعات الأفغانية، وانتهاء بـ"النصرة" و"داعش" وأمثالهما في سوريا وليبيا، وهم الذين تآمروا في الوقت نفسه على الإسلامي عمر البشير، فأطاحه العسكر في 11 نيسان/أبريل 2019، بعد 4 أشهر من زيارته إلى دمشق في 16 كانون الأول/ديسمبر 2018.
وشخصياً أيضاً، لا أدري كيف سيتفق الرئيس الأسد مع حكام الإمارات على الحد الأدنى من القواسم المشتركة، والضمانات التي سيحصل عليها حتى لا يتراجعوا عن وعودهم بعد أول رد فعل إسرائيلي لا أستبعده عندما يرى حكام "تل أبيب" أنّ الإمارات قد تتحرك خارج الحلبة التي يتواجدون فيها منذ فترة طويلة.
وما على حكام الإمارات في هذه الحالة، إذا كانوا صادقون في نياتهم، إلا أن يعتذروا علناً من الشعب السوري الذي عانى من ويلات التآمر الخليجي، وباعتراف حمد بن جاسم وآل ثاني عموماً، وما قاموا ويقومون به ليس إلا تقاسماً للأدوار في السيناريو الأميركي، الذي كان لتركيا فيه، وما زال، دور البطولة. وإلا، إن القضية لا تحتاج إلى كل هذا الشدّ والمدّ للعودة إلى دمشق، "قلب العروبة النابض"، ولولاها مع حلفائها لكانت المنطقة برمتها تحت رحمة آل صهيون، فقد أثبتت السنوات الماضية أن إسلاميي "الربيع العربي"، المعتدلون منهم والمتطرفون الإرهابيون، ومعهم حكام الخليج، هم سبب جميع مشاكل المنطقة من دون استثناء، وكانوا معاً في خدمة الكيان العبري، ولكل منهم زمانه ومكانه لإثبات الطاعة والولاء!