بعد 20 عاماً من حكم إردوغان.. قضية الحجاب من جديد
لا تتجاهل المعارضة التركية، في معركتها الانتخابية، القضية الأهم في انتقاد الرئيس إردوغان، الذي يدافع عن الحجاب فيما يحجم عن التعليق على ظاهرة زواج القاصرات، وهو الموضوع الأهم الآن في الشارع التركي.
يشهد الشارع التركي، السياسي منه والإعلامي، نقاشاً جديداً ومثيراً؛ بسبب المقترح الذي تقدّم به حزب "العدالة والتنمية" الحاكم إلى البرلمان لتعديل مادتين من الدستور، من أجل ضمان الحرية المطلقة في ارتداء الحجاب. ويتضمّن المقترح إعادة صوغ المادة 24 التي تضمن حرية العبادة الدينية، والمادة 41 التي تحمي الحقوق الفردية لكل أفراد العائلة، رجالاً ونساءً. وهو ما عدّه البعض محاولة من الرئيس إردوغان لاستغلال قضية الحجاب وإطلاق الحرية الكاملة للرجال الملتحين للعمل في المؤسسات الحكومية.
ويرى آخرون في هذه المحاولة إلغاءً لكل القوانين التي تحدّد نوعية الملابس التي يرتديها الرجال والنساء العاملون، ليس فقط في مؤسسات الدولة، بل في مؤسسات القطاعين العام والخاص عموماً، وهو ما قد يتيح لاحقاً المجال لارتداء الأزياء الدينية للرجال خلال ساعات الدوام في المؤسسات الحكومية.
المعارضة التي تتهم إردوغان بالعمل على إلهاء الرأي العام بقضايا ثانوية؛ لمنعه من التفكير في أزماته الاقتصادية والمالية والاجتماعية الخطيرة تقول بأنه لم يعد هناك في تركيا أي مشكلة بشأن الحجاب، بعد أن سمحت الدولة للمحجبات عبر سياسات الأمر الواقع، وليس بموجب القوانين، العمل في جميع مؤسسات القطاع العام، وأهمّها الجيش والأمن والقضاء. فالمحجبات أصبحن ضابطات في الجيش الذي كان قلعة العلمانية، كما أصبحن ضابطات في الشرطة بل محاميات وقاضيات وواليات ورئيسات جامعات... واعترفت الدولة للمحجبات، ولو بشكل غير قانوني، بعدد من الامتيازات والأولويات بعد أن أصبحن وزيرات وعضوات برلمان أسوة بالمحجبة أمينة إردوغان، زوجة الرئيس إردوغان، وأخريات من زوجات الوزراء والمسؤولين الكبار. في الوقت الذي أصبحت فيه اللحى لدى الرجال ظاهرة يحاولون من خلالها إثبات ولائهم للرئيس إردوغان، ولو بالمظهر الخارجي.
ومن دون أن تخفي أوساط المعارضة قلقها من نهج السلطات الرسمية التي باتت تفرض على مؤسسات القطاع الخاص توظيف المحجبات لديها بنسب معيّنة، بعد أن تدخّلت في حالات عديدة في حياة الأفراد، إذ منعت الشباب والشابات من العيش معاً في البيت نفسه، كما تدخّل الأمن في حالات عديدة لمنع الشباب والشابات من تقبيل بعضهم البعض في الأماكن العامة كالحدائق والمجمّعات التجارية والشوارع.
تدخّل السلطات الرسمية يهدف إلى تشجيع النساء على ارتداء الحجاب والالتزام بمعانيه الدينية والسياسية، وهو ما تعدّه المعارضة تناقضاً واضحاً في نهج إردوغان، وتقول إن "إردوغان الذي يتحدث عن حق المرأة في ارتداء الحجاب من منطلقات دينية تورط هو وكل أفراد عائلته في قضايا فساد خطيرة تتناقض حتى مع أبسط معايير الدين الإسلامي، الذي يمنع الرشوة والغش وسرقة المال العام".
ومن دون أن تتجاهل المعارضة القضية الأهم في انتقاد الرئيس إردوغان، الذي يدافع عن الحجاب فيما يحجم عن التعليق على ظاهرة زواج القاصرات، وهو الموضوع الأهم الآن في الشارع التركي. فقد كشف الإعلام، الأسبوع الماضي، عن تزويج رجل دين ابنته، وهي بعمر 6 سنوات، رجل دين آخر عمره 35 عاماً، وهو ما أثار ضجة كبيرة جداً في الشارع التركي، بعد اعترافات الفتاة التي تجاهلتها وزارة شؤون العائلة، بل وحتى القضاء.
وتحدثت الفتاة عن معاناتها الأليمة منذ زواجها حتى الآن، ووصفت حياتها بالجحيم، بعد أن أنجبت من زوجها وهي في سن السابعة عشرة. في الوقت الذي تهرّب الرئيس إردوغان ووزراؤه، بل وحتى إعلامه، من الحديث عن هذه القصة وقصص أخرى كشفت عن خفايا كثير من زواج القاصرات وحوادث الاعتداء الجنسي التي تعرض لها الأطفال، إناثاً وذكوراً، في المعاهد الدينية التابعة للطرائق الدينية الموالية لإردوغان الذي يدعم هذه الطرائق ومشايخها لما لهم من حاضنة شعبية واسعة بسبب التمويل الرسمي والخاص لهم.
وتتهم المعارضة هؤلاء المشايخ بخداع الجماهير التركية، التي لا تدرك ما يردّدونه باللغة العربية في المناسبات الدينية، أو عبر إذاعاتهم وتلفزيوناتهم أو حساباتهم في شبكات التواصل الاجتماعي، إذ يستشهدون بالآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية الشريفة التي يستغلونها لدعم حكاياتهم الشخصية والدينية والسياسية، دعماً للرئيس إردوغان الذي قال عنه بعض المشايخ إنه في مرتبة الأنبياء، ومن لا يصوّت له يذهب إلى جهنم.
ومن دون أن تتدخل السلطات الأمنية أو القضائية في أي قضية من قضايا زواج القاصرات، بعد أن أثبتت الإحصائيات الرسمية أن 13% من حالات الزواج سنوياً هي زواج قاصرات من دون سن الخامسة عشرة، وهو ما يمنعه قانون الأحوال المدنية الذي يحدّد سن الزواج بـ 18 عاماً. وهو الموضوع الذي كان وما زال سبباً في خلاف حاد بين العلمانيين والمتدينين الذين يدافعون عن رأيهم مستشهدين بآيات من القرآن الكريم والأحاديث النبوية والسنّة الشريفة، ولا يفهم معناها الناس لأنهم لا يعرفون العربية.
وترشح كل هذه المعطيات المرحلة القادمة لسلسلة من النقاشات الحادة بين العلمانيين والإسلاميين الذين بات واضحاً أنهم في حال بقاء إردوغان في السلطة سيفرضون رأيهم، ليس فقط على الدولة بل على الشعب التركي أيضاً. في الوقت الذي أثبت عدد من الدراسات أن ما لا يقلّ عن 60% من الأتراك ضد نهج الرئيس إردوغان، السياسي منه والاجتماعي، الذي ينطلق من قواعد دينية يعدّها مواطنون تقييداً لحرياتهم، فيما يراها آخرون ضرورية "لإصلاح المجتمع التركي وإنقاذه ممّا يعدّونه رواسب النظام العلماني منذ نحو 100 عام".
ويبقى الرهان الأخير على نتائج الانتخابات القادمة، التي إن لم يفز بها إردوغان، فكلّ الجماعات والطرائق والتكايا والمشايخ سيجدون أنفسهم وجهاً لوجه أمام تدابير وإجراءات الحكومة الجديدة التي ستمنعها من إقامة أي فعاليات دينية أو اجتماعية مهما كان مضمونها ما دام النظام القائم في البلاد علمانياً، وبناءً على الدستور الذي يمنع بدوره إقامة الفعاليات الدينية كافة خارج إطاره. وهو ما لم يلتزم به الرئيس إردوغان خلال 20 عاماً من حكمه، خاصة بعد أن أصبح الحاكم المطلق للبلاد بفضل الجماعة الدينية الأكبر التي كانت حليفته، ثم حاولت إطاحته في تموز/يوليو 2016.
واستغل إردوغان هذه المحاولة الفاشلة فقام بتغيير الدستور في نيسان/أبريل 2017، وسيطر على جميع مؤسسات الدولة ومرافقها وأجهزتها، وأهمها الجيش والمخابرات والأمن والقضاء. وكان ذلك حلم إردوغان منذ ما يسمّى "الربيع العربي"، بعد أن آمن أن هذا "الربيع" سيساعده على إحياء ذكريات السلطنة، والأهم الخلافة الإسلامية بعد مبايعة الإسلاميين له في الداخل والمنطقة. وكان عليه أن يخدمهم بدوره كما خدم قبل ذلك جماعة فتح الله غولن، وهي طريقة دينية لا فرق بينها وبين الطرائق الدينية الأخرى التي تتضامن الآن مع إردوغان، وقد تنقلب عليه في أي لحظة عندما تشعر بأنه سيخسر الانتخابات. وهذا ما يتوقعه كثيرون فيما يقول آخرون إن المشايخ سيدافعون عن إردوغان دفاعاً مستميتاً، ومهما كلّفهم ذلك؛ لأنهم يعون جيداً أن هزيمة إردوغان في الانتخابات ستعني نهايتهم هم أيضاً، وهذا ما لا ولن يتقبّلوه.