التوغل التركي شمال سوريا.. متى وليس لماذا؟

يرشّح الكثيرون تركيا لسلسلة من التطورات المثيرة، ومنها الاستفادة من الوجود العسكري التركي في شرق الفرات، واعتباره مبرراً لأيِّ كيان مستقل في غرب الفرات تحت الحماية التركية المباشرة أو غير المباشرة.

  • التوغل التركي شمال سوريا.. متى وليس لماذا؟
    التوغل التركي شمال سوريا.. متى وليس لماذا؟

عام 2019، في الذكرى التاسعة عشرة لمغادرة زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان سوريا، توغل الجيش التركي شرق الفرات بموافقة أميركا وروسيا، فسيطر على المنطقة الممتدة من تل أبيض إلى رأس العين، أي بعرض 110 كم، وبعمق يتراوح بين 10-30 كم. 

جاء هذا التوغل بعد سلسلة من التهديدات التي أطلقها الرئيس إردوغان ضد الميليشيات الكردية الموجودة شرق الفرات، التي كان يقول إنها "تشكل خطراً على الأمن القومي للبلاد"، بذريعة أنَّ هذه الميليشيات، أي وحدات حماية الشعب الكردية، هي الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني التركي، وهي الذريعة التي يطلقها الرئيس إردوغان الآن، كما سبق أن أطلقها بدءاً من آب/أغسطس 2016 عندما دخل الجيش التركي جرابلس للمرة الأولى بضوء أخضر روسي، وعندما اجتاح بعدها منطقة عفرين في كانون الثاني/يناير 2018، بموافقة روسية وأميركية مشتركة.

وهذه أيضاً هي الذريعة التي أطلقها الرئيس إردوغان ووزراؤه منذ أيار/مايو الماضي ليشغلوا بذلك بال الساسة والإعلاميين في المنطقة والعالم، وهو ما نجحوا فيه الآن بعد تفجير شارع الاستقلال في إسطنبول في 13 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، إذ تقوم المدفعية التركية بقصف مواقع وحدات حماية الشعب الكردية في المناطق المتاخمة للحدود مع تركيا في تل رفعت ومنبج وعين العرب مع تهديدات متتالية بالتوغل البري في أيِّ لحظة، ومن دون أن يسأل أحد عن السبب.

والأغرب في الموضوع أن هذا التوتر على الحدود مع سوريا بدأ عشية اللقاء "المفاجئ" بين إردوغان والسيسي بوساطة الأمير تميم، مموِّل كل المشاريع الإخوانية، السياسية منها والمسلحة، منذ بداية ما يسمى "الربيع العربي"، وخصوصاً في مصر وليبيا وسوريا، والذي ما زال على هذه الحال حتى اليوم.

وقد رأى البعض هذا التوقيت بمنزلة "رضا مصري" على سياسات الرئيس إردوغان التقليدية في سوريا، على الرغم من تصريحاته منذ أشهر عن "رغبته في المصالحة مع الرئيس الأسد واستعداده لها"، تارةً "في أقرب فرصة"، وتارة أخرى "بعد انتخابات حزيران/يونيو المقبل"، وهو ما كرره إبراهيم كالين المتحدث باسم الرئيس التركي أمس الثلاثاء، إذ قال: "من أجل إعادة تطبيع العلاقات بين تركيا وسوريا، يجب تحضير الأسس الصحيحة اللازمة، فهناك قضايا مهمة يجب التوافق على حلّها، كاللاجئين ومحاربة الإرهاب ووضع الدستور السوري الجديد"، التي يعرف الجميع أن الاتفاق عليها ليس سهلاً أبداً.

وجاءت المعلومات المتناقضة عن اعتراض واشنطن وموسكو، معاً أو كلٌّ على حدة، على العمل البري التركي في الشمال السوري لتزيد تعقيد المعادلات الإقليمية، وخصوصاً بعد تصريحات المتحدّث باسم الرئاسة الروسية، دميتري بيسكوف، الذي تحدث عن "خلافات بين روسيا وتركيا بشأن الوضع في سوريا، إلا أنَّ الحكمة السياسية ومستوى العلاقات يساعدان الطرفين على حلّ هذه الخلافات، لا عن طريق المواجهة، ولكن من خلال مفاوضات مكثفة وطويلة ما زالت مستمرة".

الخلافات التي تحدَّث عنها بيسكوف بدأت بإسقاط الطائرة الروسية قرب الحدود التركية في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، ولقاء إردوغان والرئيس بوتين في بطرسبورغ في 9 آب/أغسطس 2016. وقد وصلت العلاقة إلى ما وصلت إليه في الوضع الحالي، إذ أصبح إردوغان بأوراقه المختلفة أهم لاعب، إن لم نقل إنه اللاعب الوحيد، الذي يقرر مصير الأزمة السورية برمتها بانعكاساتها الإقليمية، بل الدولية أيضاً، فالجيش التركي، ومعه الأجهزة التركية المختلفة، يسيطرون على نحو 10% من الأرض السورية، بالتعاون مع عشرات الآلاف من مسلحي ما يُسمى "الجيش الوطني السوري" الذي تأسَّس في أنقرة.

يضاف إلى ذلك التنسيق والتعاون بين أنقرة وجبهة "النصرة" التي تسيطر على إدلب وعفرين، وأخيراً الوجود التركي الاستخباراتي المكثف في الشمال السوري عموماً، مع استمرار التمسك بورقة اللاجئين السوريين ومساعي إردوغان لإنشاء "مناطق آمنة" لهم في المناطق التي تسيطر عليها القوات التركية شمال سوريا، وهو مشروع إردوغان العقائدي والقومي والتاريخي، تارةً ضد الكرد، تارة أخرى ضد إيران.

يأتي كلّ ذلك مع استمرار الخلافات التي تحدَّث عنها بيسكوف، والتي أثبت الرئيس إردوغان أنَّه غير مبالٍ بها، وهو مستمرّ في فرض رؤيته الخاصة بسوريا، كما فعل بعد اتفاق سوتشي الأول في أيلول/سبتمبر 2018، فتحولت تركيا إلى طرف أساسي ومهم في مجمل المعادلات الإقليمية. كلّ ذلك بفضل الواقع الذي فرضته على الجميع إقليمياً ودولياً. 

ويعرف الجميع جيداً أن موسكو، بسبب علاقاتها المتشابكة والمعقدة مع أنقرة، ليس بسبب الحرب الأوكرانية فحسب، بل قبلها أيضاً، كانت تتهرب دائماً من أي توتر مع تركيا التي كانت، وما زالت، الطرف الرابح من مجمل الأزمات مع روسيا وسوريا وإيران معاً.

وقد حظي ذلك برضا واشنطن، ما لم نقل تشجيعها، وهي التي استمرّت في سياساتها المعروفة في سوريا، ليس من خلال الوجود العسكري شرق الفرات فحسب، بل أيضاً من خلال تقديم كلّ أنواع الدعم المالي والسياسي والإعلامي لوحدات حماية الشعب الكردية التي يسعى الأميركيون لمصالحة إردوغان معها، باعتبار أنها الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني، الذي يعتقد أنه يستطيع أن يستفيد من التناقضات الإقليمية والدولية ليساوم بها أنقرة التي ترى في مسعود البرزاني وحلفائه شرق الفرات سلاحها المهمّ الذي ستستخدمه عند اللزوم. 

ربما لهذا السَّبب عادت وحدات حماية الشعب إلى أسلوبها التقليديّ للاستنجاد بالجيش السوري في مواجهة الجيش التركي، وهو ما تردَّدت فيه خلال التوغل التركي في عفرين، ولاحقاً شرق الفرات، في الوقت الذي لا يتذكّر أحد تناقضات أنقرة في علاقاتها مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني السوري منذ الإعلان عنه أواخر 2011، ونجاح إردوغان في إطلاق حوار مباشر مع قيادات هذا الحزب (صالح مسلم) حتى أواسط 2015 بهدف إقناعه بالتمرد على دمشق، وهو الحوار الذي لم ينقطع إلا في حالات نادرة، لما لذلك من علاقة بحسابات إردوغان الداخلية، وأهمها منع الكرد من التصويت لمصلحة مرشح المعارضة في الانتخابات القادمة.

ويرشّح الكثيرون تركيا، قبلها وبعدها، لسلسلة من التطورات المثيرة، مع إردوغان أو من دونه، ومنها الاستفادة من الوجود العسكري التركي في شرق الفرات، واعتباره مبرراً لأيِّ كيان مستقل في غرب الفرات تحت الحماية التركية المباشرة أو غير المباشرة، وهو الحساب الذي سيحدد مسار المرحلة القادمة بالنّسبة إلى الرئيس التركي واحتمالات المصالحة مع الرئيس الأسد.

يعرف إردوغان أنَّ أوراقه باتت ضعيفة أكثر من أي وقت مضى لأسباب كثيرة، أهمها استمرار الموقف التقليدي للعواصم العربية المعروفة بعدائها لسوريا بسبب إيران وحزب الله، وفي مقدمتها الرياض والدوحة وأبو ظبي والقاهرة وعمّان؛ أعداء الأمس وحلفاء إردوغان الآن في مسرحية المضحك المبكي التي لعب فيها خلال السنوات الأخيرة دور البطولة، بفضل الرضا والتأييد والدعم الذي تلقّاه من الأطراف الأخرى التي اشتُهرت بجهلها، وأحياناً بغبائها، وفي أغلب الأحيان بغرامها للكيان الصهيوني!