التوتر في البلقان.. ماذا سيفعل إردوغان؟
ترشح المعطيات المتناقضة والمتشابكة كوسوفو، بجوارها المعقد عرقياً ودينياً ومذهبياً وسياسياً، منطقة البلقان لسلسلة من التوترات الخطيرة التي قد تستفزها واشنطن.
تشهد الحدود بين كوسوفو وصربيا توتراً خطيراً بسبب قرار سلطات كوسوفو عدم الاعتراف بالهوية الصربية، ولوحات السيارات التي يملكها مواطنو كوسوفو من أصول صربية، والذين يشكّلون نحو خمسة في المئة من سكان كوسوفو، ويبلغ عددهم نحو مليوني نسمة.
ومع أن جذور الأزمة تعود إلى بدايات تمزق يوغسلافيا وولادة عدد من الجمهوريات المستقلة، فإن أزمة كوسوفو اكتسبت طابعاً عسكرياً بتدخل الحلف الأطلسي ضد صربيا في آذار/مارس 1999 لينتهي الأمر بإعلان كوسوفو استقلالها في شباط/فبراير 2008 مع اعتراف أميركي وفرنسي وبريطاني بها فوراً (وبعدها نحو 100 دولة) ورفض روسي وصيني وقبرصي وصربي ودول أخرى.
التوتر الأخير سبق مساعي حكومة كوسوفو بأغلبيتها الألبانية المسلمة لتقديم طلب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي الذي رشح الأسبوع الماضي جمهورية البوسنة والهرسك لعضوية الاتحاد، وهو ما يصادف الحرب في أوكرانيا، حيث تقف صربيا ومعها المجر إلى جانب روسيا في هذه الحرب، مع التذكير بأن الرئيس الصربي فوتشيتش ورئيس وزراء المجر أوربان من أقرب المقربين للرئيس إردوغان الذي نجح حتى الآن في سياسات التوازن بين الغرب وروسيا، مع استمرار الاهتمام التركي بذكريات التاريخ العثماني في منطقة البلقان.
فقد شهدت كوسوفو المعركة الأولى بين الجيش العثماني بقيادة السلطان مراد الأول والجيش الصربي بقيادة لازار، وذلك في 15 حزيران/يونيو 1389، وانتصر فيها الجيش العثماني الذي عاد إلى معركته الثانية في كوسوفو أيضاً، وهذه المرة بقيادة السلطان مراد الثاني الذي انتصر على جيش الصليبيين بقيادة الأمير المجري هونيادي في 20 تشرين الأول/أكتوبر 1448 وبقيت منطقة البلقان بعدها نحو 400 سنة أرضاً تابعة للدولة العثمانية.
ويفسر ذلك الأقليات المسلمة التي ما زالت موجودة في البوسنة وألبانيا ومقدونيا وبلغاريا واليونان ويتحدث معظمها اللغة التركية، على الرغم من عمليات الاضطهاد والتهجير خلال حروب الاستقلال لدول البلقان، وبعدها خلال الحرب العالمية الأولى التي هزمت فيها الدولة العثمانية. ومن دون أن يعني ذلك أن الأقلية المسلمة في دول البلقان هي الوحيدة الموجودة في المنطقة وفي دولها حيث هناك عدد من الأقليات العرقية المتداخلة. فعلى سبيل المثال، يوجد في كل دولة بلقانية أقلية واحدة أو أكثر من أقلية عرقية تتبع لدول مجاورة، وهذه هي الحال في بلغاريا ورومانيا والمجر واليونان. وهذا ما عليه الوضع في أوكرانيا التي تعيش فيها أقليات رومانية ومجرية وبولندية وروسية، وهذه حال الجمهوريات السبع التي استقلت بعد تمزق يوغسلافيا.
وعودة إلى الأزمة في كوسوفو، فالجميع يعرف أن واشنطن تقف خلف هذا التوتر الذي تريد له أن يحرج صربيا الأرثوذكسية التي تتضامن مع روسيا الأرثوذكسية،كما تخطط من خلال هذا التوتر لتضييق الحصار على المجر التي تتضامن هي أيضاً مع روسيا باعتراضها على العقوبات الأوروبية ضد موسكو. كذلك اعتراف الاتحاد الأوروبي لجمهورية البوسنة التي تضم المسلمين والكروات والصرب بصفة المرشح للعضوية يهدف إلى خلق توازنات جديدة في غرب البلقان بعد التوترات التي شهدتها البوسنة الصيف الماضي.
وهنا، لا بد من التذكير بقرار كوسوفو المسلمة في ظل حكم رئيسة الجمهورية، فيوزا عثماني، ورئيس الوزراء ألبين كورتي (مدعومان من إردوغان ) بالاعتراف بـ"إسرائيل" في الأول من شباط / فبراير العام الماضي، وفتح سفارتها في القدس وليس "تل أبيب". وكان ذلك كافياً لضمان الدعم الأميركي والأوروبي لكوسوفو في أزمتها الأخيرة مع صربيا، والجميع يعرف أن "إسرائيل" تقف إلى جانب كييف في حربها ضد روسيا.
فالفتن من اختصاص الصهاينة عبر التاريخ برمّته وفقاً لعقيدتهم الدينية التي توصيهم بذلك، وتحلّل لهم كل الطرق والسبل لتحقيق أهدافهم وأهمها فناء البشرية ليحكم اليهود العالم. وقد يفسر ذلك الأزمة الأوكرانية منذ بدايتها عندما دعمت "تل أبيب" المجموعات النازية التي قامت بانقلاب 2014 ليفتح ذلك الطريق أمامها من أجل إيصال اليهودي الصهيوني فلاديمير زيلينسكي إلى السلطة في انتخابات نيسان/أبريل 2019، بعد أن روّجت له عبر المسلسلات التلفزيونية الكوميدية التي كانت تبثّ يومياً في 7 تلفزيونات رئيسية يملكها رجل أعمال يهودي أوكراني/إسرائيلي.
وعودة إلى التصعيد الأخير في كوسوفو، والذي يتوقّع كثيرون أن يزداد حدّة باستفزازات أميركية وأطلسية لإحراج روسيا في أوروبا، فقد تقدمت بلغراد من قيادة الحلف الأطلسي التي تحتفظ بقواتها في كوسوفو منذ 1999 أن تسمح لها بتسيير قوات صربية في شمال الإقليم بأغلبيته الصربية، وذلك وفق بنود قرار مجلس الأمن الدولي، الذي أنهى الحرب في كوسوفو بعد تدخل الحلف الأطلسي حيث قامت الطائرات الأميركية آنذاك بقصف السفارة الصينية أيضاً في بلغراد، وبقيت كوسوفو جزءاً من صربيا باعتراف دولي إلى أن شجعت واشنطن كوسوفو على الاستقلال عام 2008.
أنقرة التي تراقب التطورات في كوسوفو من كثب يتوقع البعض لها أن تدخل على خط الوساطة بين طرفي الأزمة، إذ إن لإردوغان علاقات شخصية مميزة مع الرئيس الصربي فوتشيتش المدعوم من رئيس وزراء المجر أوربان (يقول إنه من أصل تركي) من جهة ورئيسة كوسوفو فيوزا عثماني ورئيس الوزراء ألبين كورتي (المدعومان من تل أبيب).
في الوقت الذي يتذكر الجميع الدعم التركي لمسلمي البوسنة خلال حربهم مع الصرب للفترة 1992-1995 وأودت بحياة ما لا يقل عن 100 ألف من مسلمي البوسنة، ولم يسمح لهم بإقامة جمهوريتهم المستقلة، فاكتفوا بكيان شبه مستقل داخل جمهورية البوسنة والهرسك التي يحكمها مجلس رئاسي يضم ممثلين عن الصرب والكروات والمسلمين مع استمرار التوتر هناك بين الحين والحين، بانعكاسات ذلك على الأمن والاستقرار في غرب البلقان. وبات واضحاً أنه سيبقى ضمن اهتمامات واشنطن والحلف الأطلسي الذي لا ولن يتقبّل استمرار دعم صربيا (الأرثوذكسية الوحيدة في المنطقة) لروسيا الأرثوذكسية خاصة بعد أن نجحت في كسب اليونان وقبرص الأرثوذكسية إلى جانبها.
وفي جميع الحالات، ترشح كل هذه المعطيات المتناقضة والمتشابكة كوسوفو، بجوارها المعقد عرقياً ودينياً ومذهبياً وسياسياً، منطقة البلقان لسلسلة من التوترات الخطيرة التي قد تستفزها واشنطن، لخلق المشاكل لأوروبا التي لم تعد تخفي عدم ارتياحها من السياسات الأميركية ضد روسيا وعلى حسابها هي. وهو الوضع الذي لن تتردد "تل أبيب" في استغلاله وهي الخبيرة بالصيد في الماء العكر، خاصة بعد أن نجحت في اختراق كوسوفو المسلمة المدعومة من أنقرة ومن قبلها بعض العواصم الخليجية وهي الآن جميعاً تتسابق فيما بينها لكسب ود الكيان العبري المستفيد الأول والأخير من تواطؤ الأنظمة العربية والإسلامية وعمالتها وتآمرها.