إردوغان يتحدّى الغرب من قبرص.. سنفعل ما نشاء
لم يَعُدْ إردوغان يبالي بالاعتراض الروسي ما دام يعتقد أن الحليفة الاستراتيجية واشنطن ستكون إلى جانبه دائماً، كما كانت قبل الآن.
خلال زيارته الشطرَ الشمالي القبرصي بمناسبة الذكرى السنوية الـ47 لتدخّل الجيش التركي في الجزيرة في 20 تموز/يوليو 1974، أثار الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، في تصريحاته وتصرفاته، ردودَ فعل واسعة على الصعيدين الداخلي والخارجي.
فقبل الزيارة، تحدّث إردوغان عن "بشرى سارّة" سيبشّر بها القبارصة الأتراك، وهو ما دفع بعض الأوساط إلى الحديث عن احتمالات اعتراف أذربيجان وباكستان بجمهورية شمال قبرص التركية، وهو ما لم يتحقّق، لتبقى البشرى في إطار وعود إردوغان ببناء قصر رئاسيّ ومقر برلمان وحديقة عامة للقبارصة الأتراك.
وجاء رد الرئيس القبرصي التركي السابق مصطفى أكينجي عنيفاً على تصريحات إردوغان، ووصفها بأنها "تدخّل سافر في شؤونهم". واعتبر أن "هذه التصريحات إهانة لهم". وهو ما أكدته أحزاب المعارضة القبرصية التركية، التي قاطعت جلسة البرلمان حيث تحدث إردوغان، وقالت "إن الشمال القبرصي لا، ولن يكون تابعاً لتركيا".
خارجياً، زيارة إردوغان وتهديداته بإنهاء مباحثات توحيد الجزيرة، وانتقاده الاتحاد الأوروبي، واتهامه له بالانحياز إلى جانب القبارصة اليونانيين، وحديثه أخيراً عن ضمّ بعض أجزاء مدينة فاروشا المهجورة إلى جمهورية شمال قبرص التركية، عواملُ دفعت واشنطن وعواصم أوروبية إلى التعبير عن "رفضها موقف إردوغان، واستنكارها له"، وخصوصاً بعد أن تحدّث عن ضرورة إعلان استقلال الشطر الشمالي القبرصي التركي، مستبعداً أيَّ حوار مع القبارصة اليونانيين بعد الآن.
جمهورية قبرص المعترف بها دولياً، ويمثّلها القبارصة اليونانيون، والاتحاد الأوروبي وأثينا، استنكرت زيارة إردوغان وتصريحاته، جملة وتفصيلاً، واعتبرتها "استفزازية وعدائية"، بينما تقدّمت نيقوسيا بشكوى رسمية ضد تركيا في مجلس الأمن.
وقال وزير الخارجية الفرنسي جان لودريان، بدوره، "إنه سيطرح هذه المسألة في الأمم المتحدة، في أسرع ما يمكن". وعبّر وزير الخارجية البريطاني دومينيك راب "عن قلق لندن إزاء تصريحات إردوغان"، واعتبرها "مخالِفةً لقرارات مجلس الأمن الدولي، وتهدّد بتقويض عملية التسوية في قبرص". وأضاف راب "أن لندن تُجري مشاورات طارئة بشأن هذا الموضوع مع سائر الدول الأعضاء في مجلس الأمن". ووصف وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن دَعْمَ تركيا للقبارصة الأتراك بـ"الاستفزازيّ وغير المقبول". وقال "إن تصريحات إردوغان تتناقض مع المساعي الدولية لحل المشكلة القبرصية، وليست بنّاءة بتاتاً".
ردّ الفعل، أميركياً وأوروبياً، ليس بجديد، ويتكرر بين الحين والحين، ومن دون أن تبالي أنقرة به. فهي تستمرّ في إحكام سيطرتها على 36٪ من مساحة الجزيرة، ويوجد فيها نحو 20 ألف عسكري منذ التدخل التركي فيها في 20 تموز/يوليو 1974. وفشلت منذ ذلك التاريخ جميع المساعي الأميركية والأوروبية والدولية لتوحيد شطري الجزيرة، في إطار دولة فيدرالية تضمّ كيانَين مستقلَّين في الشؤون الداخلية، ويتقاسمان السلطات المركزية مناصفةً، في الوقت الذي منع مجلس الأمن في قراراته في تشرين الثاني/نوفمبر 1983 الاعترافَ بجمهورية شمال قبرص التركية، التي لا تعترف بها سوى أنقرة.
ويطالب الاتحاد الأوروبي، بدوره، تركيا بسحب قواتها من الجزيرة، والاعتراف بالقبارصة اليونانيين رسمياً، شرطاً أساسياً للاستمرار في مباحثات الانضمام إلى الاتحاد. وبات واضحاً أن إردوغان، في تصرفاته الأخيرة، لم يعد يبالي بردّ فعل الاتحاد الأوروبي، كما لم يُبالِ بعدد من بياناته وقراراته، التي استنكرت عمليات البحث والتنقيب عن الغاز والبترول في المناطق الاقتصادية للجزيرة، لكن من دون أن تفعل الدول الأوروبية أيّ شيء أكثر من الاعتراض، بسبب ما لديها من مصالح اقتصادية استراتيجية في تركيا.
دفع كل ذلك القبارصة اليونانيين إلى إقامة تحالفات إقليمية جديدة ضد تركيا، ومنها التحالف مع "إسرائيل"، بالتنسيق مع أثينا، ثم مع مصر، وأحيانا مع الإمارات وفرنسا، وهي دول معادية لإردوغان.
أثبت إردوغان، في تصرّفاته، أنه لا ولن يبالي بكل هذه المواقف الأوروبية، وحتى الأميركية، فأنشأ قاعدة عسكرية للطائرات المسيَّرة، قيل عنها إنها ستراقب كل التحركات العسكرية في البحر الأبيض المتوسط. كما ستراقب دول المنطقة القريبة من قبرص، وهي "إسرائيل" ولبنان وسوريا، حيث القواعد الروسية قبالة الشواطئ القبرصية التركية، وفيها مرفأ لليخوت تقوم شركة إسرائيلية بتشغيله.
وتتحدّث المعلومات باستمرار عن استثمارات إسرائيلية ويهودية في الشطر الشمالي التركي، بالإضافة إلى نشاط معروف لـ"الموساد" في الشطر الجنوبي، بسبب ما لقبرص من مكانة استراتيجية في حسابات اليهود منذ أكثر من 500 عام.
وتحتفظ بريطانيا بقاعدتين مهمَّتين في الجزيرة، تستفيد منهما فرنسا وأميركا، وتقومان بالتجسس على منطقة الشرق الأوسط برمته.
يبقى الرهان، في جميع الحالات، على الإجماع، أميركياً وأوروبياً. وإن تحقَّقَ فقد يجد إردوغان نفسه مضطراً إلى التراجع عن كل ما قاله، أو فعله وسيفعله في الجزيرة. وإلاّ فإن المعطيات تبيّن بكل وضوح رغبته في السيطرة على الشطر الشمالي من الجزيرة، والتخلّص من معارضة القبارصة الأتراك، وتراجع عددهم إلى نحو 100 ألف في مقابل 300 ألف من الأتراك الذين هاجروا إلى الجزيرة بعد التدخل العسكري عام 1974.
وقال وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، في مذكّراته عن هذا التدخل "لقد كنّا على علم مسبّق بهذا التدخل، وسكتنا عليه لأننا أردنا أن نستغلّه في علاقاتنا بالعدوّتين التاريخيتين تركيا واليونان". وهو ما تحقَّقَ حتى الآن، وخصوصاً بعد أن فتح الاتحاد الأوروبي أبوابه لليونان والقبارصة اليونانيين، الذين يمثّلون جمهورية قبرص المعترَف بها دولياً، بينما بقيت أبواب الاتحاد مغلقة في وجه تركيا التي تقف أمامها منتظرةً منذ عام 1963.
ويبدو أن الرئيس إردوغان سئم من هذا الانتظار بعد أن اقتنع بأن الظروف باتت مهيَّأة أكثر له لفرض سياساته في قبرص، بعد أن نجح في فرضها في سوريا وليبيا والعراق والصومال وأذربيجان، وقريباً في أفغانستان.
وكل ذلك، على الرغم من الاعتراض الروسي الذي لم يَعُدْ إردوغان يبالي به، ما دام يعتقد أن الحليفة الاستراتيجية واشنطن ستكون إلى جانبه دائماً، كما كانت قبل الآن. وهو يعتقد أن أوروبا لا ولن تستطيع أن تفعل أيَّ شيء ضدَّه، ما دام الخلاف مستمراً بين دولها، وما دام يمتلك عدداً من أوراق المساومة والتهديد ضدّها، منها ورقة اللاجئين السوريين، والآن الأفغان، ودائماً ورقة إسلاميي المنطقة!