إردوغان وإدلب.. الهجوم خير وسيلة للدفاع
يهدف إردوغان عبر حساباته إلى سد الطريق أمام أي اتفاق محتمل بين الكرد ودمشق، وبالتالي ضمان الدور الفعال للإسلاميين في سوريا المستقبل.
كما كان متوقّعاً، يستمرّ الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بموقفه الرافض لأي معالجة عسكرية سورية/روسية للوضع في إدلب، معتبراً ذلك تحدّياً له ولقوة أوراقه في الشمال السوري، وفي سوريا عموماً، وهو لا يكتفي بهذا الرفض، بل يستغلّ كلّ فرصة للهجوم على روسيا وأميركا التي تدعم وحدات حماية الشعب الكردية، وهي امتداد لحزب العمال الكردستاني التركي الإرهابي، وفق تصنيف الدّولة التركيّة.
بعد أن هدّد إردوغان ووزير خارجيته جاويش أوغلو واشنطن وتوعّداها وناشداها للانسحاب من الشمال السوري، اتّهماها، ومعها موسكو، بعدم الالتزام بتعهداتهما في ما يتعلّق بإبعاد الميليشيات الكردية عن الحدود السورية مع تركيا. وجاءت الهجمات التي شنّها المسلّحون الكرد على القوات التركية قرب مدينة تل رفعت القريبة من عفرين لتعطي أنقرة المزيد من الحجج والمبررات للاستمرار بسياساتها الحالية في إدلب والشمال السوري عموماً.
وبعد أن تحدَّث إردوغان عن "نفاد صبره من الهجمات الكردية"، هدّد وتوعّد روسيا وأميركا "والنظام"، وأشار إلى احتمالات التدخل العسكري في المنطقة. تهديد الرئيس إردوغان، والذي يأتي في إطار المقولة التي تقول "إن الهجوم خير وسيلة للدفاع"، تريد له أنقرة أن يساعدها لفرض أجندتها الخاصَّة على الجميع، حتى لا يتحدث أحد عن إدلب والتواجد التركي في الشمال السوري عموماً.
الرئيس بوتين الَّذي قيل إنه سعى في لقاء سوتشي الأخير لإقناع إردوغان أو إجباره على الالتزام بتعهداته الخاصّة بإدلب، يجد نفسه الآن أمام واقع جديد يريد له أن يساعده لمواجهة ضغوط الرئيس الأسد في موضوع إدلب، وهو الموضوع الذي سيساعد إردوغان للمساومة مع الرئيس بايدن "لكسب وده ورضاه" خلال لقائه به في روما نهاية الشهر الجاري، مع احتمال أن يقوم الجيش التركي بعملٍ ما قبل ذلك التاريخ أو بعده فوراً ضد تل رفعت ومنبج وعين عيسى وتل تمر على انفراد أو معاً، وهو ما يتحدّث عنه الإعلام الموالي لإردوغان منذ أيام.
إنَّ تركيا التي دخلت إلى سوريا بعملية "درع الفرات" في 24 آب/أغسطس 2016، وبموافقة روسية، سيطرت على عفرين وجوارها في عملية "غصن الزيتون" في كانون الثاني/يناير 2018، وأيضاً بضوء أخضر روسي، بعد أن رفض الكرد التنسيق والتعاون مع الدولة السورية في المنطقة.
وفي عملية "نبع السلام"، في 9 تشرين الأول/أكتوبر 2019، توغّلت القوات التركية مع فصائل سورية موالية لها في شرق الفرات، وسيطرت على المنطقة الممتدة من تل أبيض إلى رأس العين، وهي بطول 110 كم، وهذه المرة بموافقة روسية أميركية مشتركة.
وجاءت عملية "درع الربيع" في 29 شباط/فبراير 2020، لتساعد أنقرة على حشد قوات كبيرة في المنطقة، بعد أن تدخل الجيش التركي لمنع تقدم القوات السورية المدعومة من إيران وروسيا باتجاه إدلب. ويبدو واضحاً أن إردوغان يسعى لإغلاق ملفها، وهو يعتقد، بل يؤمن، بأنه يملك المزيد من أوراق المساومة في تحدياته مع كلٍّ من موسكو وواشنطن في العديد من المجالات والمواضيع الحساسة والمعقّدة.
يفسّر ذلك، وفق الرؤية التركية، تهرّب الرئيس بوتين من أي ضغوط جدّية وعملية على إردوغان في موضوع إدلب أو لمنعه من أيّ تصرف أحادي الجانب في سوريا، التي يعرف الأخير أن الحل فيها لن يكون سهلاً من دون موافقته، إن لم يكن مستحيلاً، وخصوصاً في ظل الظروف الصعبة التي تعيشها في جميع المجالات، وعلى كل الأصعدة الخارجية والداخلية، وإردوغان على دراية مفصلة بها، بفضل أتباعه الموالين له في الشمال والداخل السوري عموماً، وبين اللاجئين السوريين في تركيا أيضاً، وعددهم 3.7 ملايين، وهو يعتقد أنَّهم مؤيدون له، بفضل الخدمات التي قدمها لهم ولكلّ السوريين، وما زال، في المناطق التي يسيطر عليها الجيش التركي، وهي حوالى 10% من مساحة سوريا.
يدفع هذا الحساب الرئيس إردوغان إلى التمسك بورقة اللجنة الدستورية، التي يريد لها أن تساعده للضغط على دمشق، وهو يعتقد أنَّها، أي دمشق، لن تقدم التنازلات المطلوبة منها لصياغة دستور جديد لسوريا، وبالتالي إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية بإشراف الأمم المتحدة.
ويعقد إردوغان آمالاً كبيرة على الموقف المحتمل لدمشق، والرافض للضغوط الدولية في موضوع الدستور والانتخابات، ويريد لهذا الرفض أن يساعده أولاً على تأجيل ملف إدلب والتواجد التركي عموماً في الشمال السوري، إن لم يكن إغلاقه، وبالتالي الاعتراف لتركيا بدور أساسي في مفاوضات المستقبل السوري عموماً، بما في ذلك تقرير مصير الكرد شرق الفرات بوضعهم الحالي أو بعد خروج الأميركيين من المنطقة.
ويهدف إردوغان من خلال هذه الحسابات إلى سد الطريق أأأمام أي اتفاق محتمل بين الكرد ودمشق، وبالتالي ضمان الدور الفعال للإسلاميين، مدنيين ومسلّحين، في سوريا المستقبل، من دون تجاهل حقوق التركمان فيها، وفق حسابات إردوغان.
يبدو أن كل هذه المعطيات كانت حاضرة في التصور الروسي للمرحلة القادمة، وهو ما دفع الرئيس بوتين إلى إرسال مندوبه الخاص إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف ونائب وزير الخارجية الروسي سيرغي فيرشينين إلى دمشق، لينقلا إلى الرئيس الأسد وجهة نظر موسكو حيال المواقف المحتملة للرئيس إردوغان في ما يتعلق بسوريا عموماً، وإدلب خصوصاً، وخصوصاً بعد أن بات واضحاً أنَّ الأخير لن يتراجع عن موقفه فيها، ما دامت - بالموجودين فيها من المسلَّحين السوريين والأجانب - تحولت إلى ورقة مهمة تساعده على فرض أجندته على العديد من الأطراف الإقليمية والدولية.
ويعتقد إردوغان "أنَّها لن تستطيع أن تواجهه ما دام الأقوى بالتكتيك والاستراتيجية التي حقّقت له ما حققته من انتصارات إقليمية ودولية"، وهو الآن يسعى للمزيد منها، لأنَّه يعتقد، بل يؤمن، "بأنَّ الظروف والمعطيات لمصلحته إقليمياً ودولياً"، وإن لم تكن داخلياً، فقد أثبتت كل الاستطلاعات أن ما لا يقل عن 70% من المواطنين الأتراك ضد سياساته الخارجية، وهو يريد أن يغير هذه المعادلة من خلال المقولات والمواقف والتحركات القومية والدينية ذات البعد التاريخي، ليثبت للجميع "أنه الوحيد الذي يستطيع أن يحيي ذكريات الخلافة والسلطنة والإمبراطورية العثمانية بمكاسبها العسكرية والسياسية والنفسية"، ولكن لا يبالي غالبية الأتراك بهذه "المكاسب"، فهم يعيشون ظروفاً معيشيّة صعبة جداً، نتيجة سياساته الخارجية التي تصفها المعارضة "بالمغامرات الدموية التي باتت تهدد أمن تركيا واستقرارها ومستقبلها بالكامل".