أزمة دستورية خطيرة.. إردوغان يتحدى الجمهورية علناً
يريد إردوغان لهذا الدستور الجديد أن يمنحه السلطات المطلقة على كل مؤسسات الدولة، وأهمها المحكمة العليا التي تملك صلاحيات محاكمة الرئيس بتهمة الخيانة العظمى أو سحب صلاحياته بتوصية اللجان الطبية المختصة.
بعد 10 أيام على الاحتفال بالذكرى المئوية للجمهورية العلمانية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك في 29 تشرين الأول/أكتوبر 1923، شهدت تركيا أخطر أزماتها السياسية التي ستقرر مصير هذه الجمهورية على المدى القصير والمتوسط والطويل قبل مئويتها الثانية؛ فبعد العديد من التصريحات التي سبق للرئيس إردوغان أن أطلقها وقال فيها إنه "لن يلتزم بقرارات المحكمة الدستورية، وإنه لا يحترمها"، طالب شريكه دولت باخشالي، زعيم الحركة القومية، بـ"حل هذه المحكمة" أكثر من مرة.
وجاء قرار الدائرة الثالثة في محكمة التمييز العليا ليفاجئ الجميع، إذ رفضت قرار المحكمة الدستورية العليا التي أمرت الأسبوع الماضي بإخلاء سبيل جان أتالاي الذي انتخب عضواً في البرلمان عن حزب العمال، والذي دخل إلى السجن بتهمة تحريض المواطنين المعتصمين في ساحة تقسيم في إسطنبول عام 2013 على التمرد ضد الدولة.
ولم تكتفِ الدائرة الثالثة في محكمة التمييز برفض قرار المحكمة الدستورية، بل أمرت بإجراء تحقيق قانوني بحق أعضاء المحكمة الدستورية العليا، وهو ما اعتبره زعيم حزب الشعب الجمهوري الجديد أوزغور آوزال "بمنزلة الانقلاب على الدستور والنظام الديمقراطي بضوء أخضر من الرئيس إردوغان". وأضاف أن "المادة 153 من الدستور تفرض على جميع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية والإدارية الالتزام بقرارات المحكمة الدستورية العليا".
وقد أعلن زعماء أحزاب المعارضة استنكارهم قرار الدائرة الثالثة في محكمة التمييز، واعتبروا ذلك "عملاً يستهدف النظام الديمقراطي برمته"، وهو ما قاله الرئيس السابق عبد الله جول ورئيس المحكمة الدستورية العليا هاشم كليج، الذي وصف التطورات الأخيرة بأنها "خطيرة جداً"، ورأى أنها "تشكل خطراً على مستقبل الدولة والجمهورية التركية بكل مؤسساتها"، من دون أن يؤثر كل ذلك في موقف الرئيس إردوغان الذي "عبر عن تأييده لقرار الدائرة الثالثة"، ناسياً أنه عيَّن معظم أعضاء المحكمة الدستورية العليا منذ أن أصبح رئيساً للجمهورية عام 2014، فيما عين الرئيس السابق عبد الله جول الآخرين.
قرار الدائرة الثالثة في محكمة التمييز ونيله تأييد إردوغان، ولو بشكل غير مباشر، كان له ردود فعل عنيفة في الأوساط السياسية والحقوقية، إذ دعا رئيس اتحاد نقابات المحامي نأرينج ساغكان رؤساء نقابات المحامين في عموم البلاد إلى اجتماع طارئ في أنقرة بعدما اعتبر التطورات الأخيرة "جزءاً من مساعي الرئيس إردوغان للقضاء على النظام الدستوري الديمقراطي وإقامة نظام استبدادي ديكتاتوري يكون فيه القول الفاصل لإردوغان فقط".
وقاد ساغكان تظاهرة حاشدة من وسط العاصمة أنقرة وصولاً إلى المحكمة الدستورية العليا، ليبدأوا اعتصاماً مفتوحاً تعبيراً عن رفضهم موقف الرئيس إردوغان وسياساته التي "تهدف إلى تدمير النظام الديمقراطي"، على حد قوله.
بدورهم، بدأ أعضاء البرلمان عن حزب الشعب الجمهور باعتصامهم داخل قاعة البرلمان الرئيسية، من دون أن يحظى هذا الاعتصام بتأييد أو تضامن أعضاء البرلمان من أحزاب المعارضة الذين دخلوا البرلمان من لوائح حزب الشعب الجمهوري، وهم ينتمون إلى حزب السعادة والمستقبل والديمقراطية والتقدم والديمقراطي، بعدما تحالف زعماء هذه الأحزاب اليمينة، وهم تامال كاراموللا أوغلو وأحمد داوود أوغلو وعلي باباجان وكولتاكين آويصال، مع زعيم حزب الشعب الجمهوري السابق كمال كليجدار أوغلو في الانتخابات الأخيرة.
التوقيت الزمني للتطورات الأخيرة جعلها تكتسب أهمية إضافية لأنها صادفت الذكرى الـ85 لوفاة مصطفى كمال أتاتورك؛ مؤسس الجمهورية التركية التي يسعى الرئيس إردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم منذ 21 عاماً للتخلص من إرثها السياسي والفكري، وهو ما لم يتحقق له حتى الآن، على الرغم من تغييره الدستور في نسيان/أبريل 2027 وجعله النظام السياسي رئاسياً بعدما كان برلمانياً منذ عام 1950، فأصبح إردوغان الحاكم المطلق للبلاد، وسيطر على جميع مرافق الدولة وأجهزتها ومؤسساتها، وأهمها الجيش والأمن والمخابرات والقضاء.
ويرى البعض في التطورات الأخيرة الخطوة ما قبل الأخيرة للتخلص من جمهورية أتاتورك، وأياً كانت التسميات، إذ يستعد إردوغان لصياغة دستور جديد وإحالته إلى الاستفتاء قبل أو بعد الانتخابات البلدية في آذار/مارس المقبل.
ويريد إردوغان لهذا الدستور الجديد أن يمنحه السلطات المطلقة على كل مؤسسات الدولة، وأهمها المحكمة العليا التي تملك صلاحيات محاكمة الرئيس بتهمة الخيانة العظمى أو سحب صلاحياته بتوصية اللجان الطبية المختصة.
وتدفع هذه السيناريوهات بعض الأوساط إلى الحديث عن نية الرئيس إردوغان إلغاء المحكمة الدستورية لتحل محلها هيئة قضائية تتبع له مباشرة ويقوم بتعيين أعضائها بالكامل، لتكون هذه الهيئة سلاحه الأقوى ضد معارضيه، أياً كانوا، في البرلمان أو الإعلام، وحتى الجهاز القضائي الذي قام إردوغان بإقالة الآلاف من عناصره من القضاة ووكلاء النيابة بعد محاولة الانقلاب الفاشل في تموز/يوليو 2016 التي قيل إن أتباع فتح الله غولن قاموا بها.
وتحدث الإعلام بعد ذلك عن تعيين عدد كبير من القضاة ووكلاء النيابة والمحسوبين على حزب العدالة والتنمية وشريكه الحركة القومية بدلاً من الذين تم طردهم أو اعتقالهم. وكان إردوغان ووزير عدله قد عيّناهم عندما كان غولن شريكاً استراتيجياً لهما قبل محاولة الانقلاب المذكور.
ولم تمنع كل هذه التناقضات الرئيس إردوغان من الاستمرار في نهجه السياسي هذا ومساعيه للتخلص من جميع معارضيه ومنافسيه وأعدائه، أياً كان موقعهم في الدولة أو السياسة أو الإعلام أو أي قطاع من قطاعات المجتمع، بما فيها منظمات المجتمع المدني والنقابات المهنية، وأهمها نقابات الأطباء والمحامين والحقوقيين والمهندسين وأساتذة الجامعات التي سيطر عليها إردوغان عبر رؤسائها الذين يقوم بتعيينهم شخصياً وفق الدستور الذي أقسم أنه سيلتزم به وسيدافع عنه عندما أصبح رئيساً للجمهورية، وهو ما لم يفعله في العديد من المناسبات.
على سبيل المثال، يمنع الدستور انتخابه أكثر من مرتين، ولكنه لم يلتزم به، ويفرض على المرشح للرئاسة أن يكون حاملاً للشهادة الجامعية، وهو ما لم يثبته إردوغان، ويأمر رئيس الجمهورية وكل المسؤولين في الدولة الالتزام بقرارات المحكمة الدستورية العليا، وهو ما لم يفعله أيضاً باعترافه شخصياً، ليعلن الحرب علناً ضد هذه المحكمة.
ويبدو أن إردوغان يريد أن يسيطر عليها بالكامل، كما هي الحال بالنسبة إلى الدولة، أي الجمهورية التي يريد لها أن تكون وفق معاييره ومقاييسه شخصياً بعد أن يضمن انتخابه مرتين إضافيتين بعد 2028.
ربما لهذا السبب يسعى لصياغة دستور جديد يسمح له بترشيح نفسه مرتين إضافيتين للبقاء في السلطة حتى 2038، والله أعلم بمصير تركيا بمعطياتها الحالية داخلياً وخارجياً قبل حتى ذلك التاريخ !